في إثر الحكاية الساخرة
يتندر كتّاب كثيرون بأن الكتابة الساخرة على وشك الاندثار أو النضوب، إن جاز التعبير، أو أنها استنفدت محكياتها التي اعتدنا عليها، ربما لنضحك من أقدارنا وتضحك منا الأقدار، في جدلية أصبحت واحدة من حقائق الإبداع وقوانينه المفتوحة.
لكن السؤال: من أين يأتي الكلام وكيف تتشكل الكتابة الساخرة، أهي ردة فعل عاطفية فحسب وبمعنى ما؟! لنذهب في سياقاتنا التهكمية من متعاليات يشي بها الواقع، ولنقلب فناجيننا ونقرأ خارج الفنجان ما يعتمل في ذواتنا، ونشتق من الضحك ما هو مؤسٍ، لعلنا نواسي به جراح أزمنة لا تشبه إلا ذاتها، في مفترق الضحك تظل السخرية مادة حافزة على الانتباه لأنها تقول أشياء أخرى، وهذا ما وجدنا عليه على سبيل المثال أدب النكتة السياسي، أو تلك النوادر المجتمعية التي أصبحت تالياً ديوان العرب في السخرية الطليقة مما لا يستطاع قوله، ليُحكى بغير طريقة وعلى الأسلوب أن يكون مقنعاً لا ليستدر ضحكة عاجلة، بل انتباهاً يعمل العقل في ضوئه على ترتيب أشيائه ليضخ في الفكرة دماً جديداً، وأحسب أن تراث الأدب الساخر كان تنويعاً على فكرة واحدة قد تتعدد إلى أشكال ثرة، تتنوع فيها مقدرات الضاحكين وفطريتهم وإحساسهم بأنهم سيقولون شيئاً جديداً، إن أرادوا مخاتلة القارئ بالطريقة التي يُروى بها الكلام.
فهل انقلب الواقع بسخرياته العنيدة ليصبح، هو الراوي المطلق أو السارد لها، لأنه يروي على طريقته فيضحكنا من الأعماق، تلك الضحكة المضرجة بالألم من مفارقات لعلها أصبحت لوازم بذاتها، والواقع ساخراً مازال ثراً بما يكفي لأن تتولد منه عشرات الحكايات والمواقف والنوادر، ولنتذكر في هذا السياق بأسلوب تهكمي جملة قالها الأديب الراحل غسان كنفاني في واحدة من قصصه الرائعة: (لمَ لا يمشي الإنسان على رأسه ليرى العالم بشكل صحيح)، لعلها رؤية في ترتيب محكيات واقع تتطير منه الضحكة، وتتجمع جزئياتها ليؤلفها من يلتقطها، فإما أن يزيدها إدهاشاً، أو يظل الواقع هو الحكاء المطلق والضاحك الأكبر؟.
في زمن مضى كان كتاب (الضاحكون) للأديب محمد قره علي يضحكنا منذ السطر الأول، لا لأننا أدركنا السياق بتلك التوريات الذكية الفطنة لما أرادته تلك الحوادث التي سردها، وتلك الرحلة في ذاكرة التراث العربي ومواقفه الساخرة، بل لأن إحساسنا المهيأ دائماً لالتقاط الفكرة يحاول أن يسابق الزمن، ولأن ثقافة الضحك في مجتمعاتنا تكاد أن تصبح ترفاً، فالأصل هو التجهم والجدية المفرطة وتبقى السخرية نافلة كما يذهب البعض ممن تندروا ذات يوم، لأن الضحك هو محض مزاج عابر، لكن حجر الضحك حينما يرفع مدماكاً روائياً سيصبح مواقف تأخذنا إلى أكثر من حقل انتباه، بإشاراتها، واللغة كما هو معلوم هي منظومة إشارية بامتياز، فكيف إذا استوت في حوامل معرفية وإبداعية مختلفة!
الزمن هو الضاحك الأكبر وما نحن سوى أصداء تتصادى فيها قهقهاتنا، لكأنها رجع يتيم، فمن يقوى على الضحك؟ ومن بوسعه حقاً أن يمنع الضحك من موائد الكلام، لأنه صار مقاومة بطريقة ما، لقبح لم تعد تقوى عليه الأرواح، أو الأفئدة النابضة بالألم وحسب؟!
وإذا كان الواقع بذاته من يمنحنا -بوصفه خيالاً طليقاً- مادة الضحك الأولى أو السخرية بتجلياتها، ولا سيما في تلك الثنائيات التي يتوسل القلب أُلفتها كما اللغة، ومنها الحرب والحب، الضحك والنسيان، فعل كثيرين أرادوا إسقاط حرف الراء ليصبح الحب طليقاً، وتصبح الحرب مجرد ذكرى، فإن ساخر اليوم بالمعنى المعاصر يتوسل أن يضيف إلى ما نعرفه غير مكتفٍ بالطريقة فقط، بل باختراع ما يشي بالضحك ولو أنه يذهب بنا إلى قهقهة مُرة حد البكاء، فمن أين تأتي السخرية إذاً في استدارتنا للواقع، أو استدارته لنا لا فرق، ونحن مازلنا أهداف الضحك المحتملة بوصفنا بشراً يجملنا الابتسام، ليقتلع شوك صبرنا، وتجملنا الضحكة لتجعلنا رائعين في ذاكرة من نحدثهم لنخاتل الواقع ولو قليلاً، بأن الضحك هو الأقدر على إطالة الأعمار فهو حياة أخرى، لكن السخرية هنا هي الأقوى لأنها تستبطن ذلك الموقف، الذي لم تستنفده مدونات الأدب البتة، فالكلمة الأخيرة في الأدب الساخر لم تكتب بعد.