ناي الغريب
في شوارع دمشق، وفي زواياها الأكثر انكشافاً للشمس، ثمة ما يجعل من الظواهر نبضاً حياً ومستمراً، هي أن تجد عائلة تفترش إحداها، ولا بأس أن يكون محل إقامتهم الجديد أشبه بالبيت بلا نوافذ ولا شرفات، وغالباً ما تجلس العائلة في انتظار شيء ما، لكنها ستصبح تالياً جزءاً من الشارع حين ينام تنام معه، وحينما يصحو تصحو.
الرجل الذي يحتضن صغاره دون أن يتوسل أحداً أو يستجدي بطلب فاتورة دواء مثلاً، أو بضعاً من النقود لطعام عاجل، لم يستطع الذهاب إلى بيت لا يجده، ولا مأوى بفعل الازدحام يستقبله، إذ لم تعد حرمة الشارع سائدة، ها قد افترشها الباعة أيضاً، والأكشاك الجميلة الساهرة حتى الصباح.
تجلس العائلة فيما يراها العابرون أشبه بلوحة، أو منحوتة، لكنها متحركة نسيها خيال مبدع عابر، على طريق ليست عابرة بالتأكيد، أو لربما ظلت العائلة ذاتها مادة لحكاية يتلقفها فقراء الخيال، لينسجوها في مدوناتهم المستعجلة لحاقاً بما يدونه كّاب هذه الأيام، بمعنى أنهم يلتقطون اللحظة، فلا تفرّ منهم إلى الصمت.
لكن طفلاً بدا أنه لا يكترث بالعابرين، يداعب ناياً علّه يعزف ألحاناً ربما تعلمها من والده، ترتبك أصابعه الغضة ليخرج اللحن شجياً ومتكسراً مثل طفولة هذه الأيام، يعيد الطفل الكرة مرات عدة، عسى أن يظفر بلحن يعيده من محفوظات عائلته، أو تُراه يبتكر لحنه الخاص، لم يلتفت أحد لمحاولات الطفل اليائسة العزف المتقطع، كيوميات عائلته التي افترشت جزءاً من الرصيف، وحينما يأخذ اليأس منه مأخذاً يضعه بجانبه ويستلقي متأملاً عائلته، إنها اللحن المقطوع والمجزوء من سيمفونية الحياة، ومن دراما الاغتراب داخلاً وليس خارجاً، والكلمات التي ترتبها شفة الصبي على مهل، بدت أكثر ارتباكاً، لأن الذاكرة لا تُستعاد في العراء، ظل الناي جانباً في موت سريري، بعد أن فقدت أصابع الأبد العازف حرارتها، وأصبح يومه هو نايه الكبير، وما سوى نظرات مترعة بالكثير من الشغف، ينظر الطفل إلى العالم يستجدي ابتسامة ولو قليلة، ليعود بها إلى العائلة في منتصف النهار وقبيل الليل، لأن الليل هو حكايتهم الأخرى، فكيف يفترشون الرصيف ليناموا دون أحلام، لم يصبحوا في إثر صورة لصحفي عابر، يغذّ الخُطا ليجد صورة جديدة غير ما اعتاد وقت الحروب، فقد ركن الصحفي كاميرته جانباً وجلس يقتسم معهم بقية النهار، لصورة أخرى في مخيلته لا تقوى الكاميرا على التقاطها، أو اصطيادها إن صحت التسمية، ولم يفتنه صمت العائلة لأنه خمنّ أن يذهب وراء الصمت، ليعرف أن البيوت أصبحت من لحم بعد أن تشظت الحجارة، وأن الكلام الناقص في الحديث المقتضب، هو بقية لأعمار قصيرة، فقد ذهبت أوهام العيش الطويل، وأصبحنا كقصص قصيرة، في مدونة أيامنا وكأنهم الآن يستعيدون أصواتهم من تلك الأزمنة السحيقة، حينما كانت قُراهم حكاية كبيرة، وذكريات وأحلاماً مكشوفة، والأرض تدور ولا تكف عن الدوران، ولهذا هم الآن هنا، ويتحسس أصواتهم الناي، ليستعيد عزفه، لكن لا أصابع قادرة على أن تحيي فيه ذلك الصهيل البعيد.
طار الناي وحلق في أكثر من سماء، بحثاً عن أصوات ووجوه ألفها، وظلت أصابع الفتى تتوسل التقاطه، لكنه لخفّته لم يحتمل البقاء، كريشة حرة راحت تفتش عن لوحتها وعن ألوانها الأكثر براءة من ألوان لم تعد تُعرف حدود أبيضها من أسودها.
فقط العائلة تبتسم من جديد، مودّعة نهاراً آخر، علّ الليلة على ليلتهم تأتي بحلم، يستعيد الناي البعيد ليعزف غير لحن الوداع.