في أربعينية الدكتور خليل موسى القنديل المتوهج

ما نكاد نفجع برحيل صديق حتّى يدمي قلوبنا رحيل آخر، وهل بقي في النفس والروح والجسد مكان لتلقي كل هذه الصدمات ونحن نعيش في صدمة كبيرة مذهلة تعصف بالوطن والإنسان معاً.

من أين لي أن أعرف أن الهاتف الذي رن كان يحمل في أثيره خبر رحيل أخي الكبير وصديقي الغالي الدكتور خليل موسى، لو كنت أعرف لما فتحت الجوال حتى يبقى حياً يقظة وتخيّلاً في وجداني. وكأن الصدمة لم تصعقني عندما هتف الصديق باسم عبدو يعلمني بالرحيل، أقفلت الجوال وضعته جانباً وأنا أكاد لا أصدق، كأنه حلم أو دعابة شريط من الذكريات غشاني، تصورته في كل الأماكن التي كنا معاً فيها، كلامه، نصائحه، عظاته، توجيهاته، أحكامه الصارمة، ابتسامته البريئة. فجأة انقضت عليّ حقيقة الموت الذي لا مفر منه، أجهشت، بصوت جهوري وقلبي يعتصره الحزن والأسى، لأنني كنت طريح الفراش ولا أستطيع أن أذهب لألقي عليه نظرة الوداع وأطبع قبلة أخيرة على جبينه وأشارك في تشييعه. ما تزال آخر كلماته عندما هاتفته آخر مرة، تقرع مسامعي (أنا بخير: المهم أنت طمّني عنك). لا أعرف يا صديقي الحي أبداً في ذاكرتي ما إن كان ما سأكتبه يليق بقامة أدبية مثلك، وأنت قمة فوق ادعاء المتألقين من الأدباء والكتاب.

عرفته عندما قررنا أنا ونبيل مجلي وكمال سحيم إنشاء السهرة الثقافية في الحجر الأسود في عام 2003 وقت ذاك اتفقت مع نبيل مجلي على أن نذهب إلى اتحاد الكتاب العرب في المزة ونعرض الفكرة على الكتاب وندعوهم إلى السهرة.

كنت أعرفه من كتاباته ومن صوره على صفحات المجلات والصحف، لكن عندما مر من أمامي في بهو اتحاد الكتاب العرب شعرت أني التقيته كثيراً وأن أعرفه منذ زمن طويل، كان مألوفاً محبباً قريباً من النفس، استوقفه نبيل وبدأنا نتناوب الكلام شارحين له عن السهرة الثقافية. رحّب بلا تردد ووعدنا بزيارة. هذا العصامي الذي كوّن نفسه بجد وجهد، اشتغل في الأعمال الحرة في بيروت ودمشق، عانى من الفقر والألم معاً، وكانت بوصلته إكمال دراسته، ثابر ودرس ونجح وتفوق ليكون إنساناً فاعلاً في مجتمعه.

لأسابيع وأشهر وسنوات، وظل مواظباً على القدوم إلى السهرة، المسافة التي يقطعها من الدويلعة بداية، ثم من جرمانا إلى الحجر الأسود كانت مرهقة كل يوم جمعة، لكنها كانت مساهمة فعالة وتغني السهرة، لا أبالغ إذا قلت إنه كان عامود السهرة، ناقد فذ وشاعر متمكن ومعلم حقيقي، استمر بالعطاء بروح صافية نقية، لم تثنه مناكدات الغيورين الحاسدين أو غرور المدعين، كان واثقاً غير متردد في آرائه أو مجاملاً لهذا أو ذاك، وكم حزن من بعض المديح الذي كان يكال لهذا أو تلك، لنص هابط أو ضعيف.

 أيها القنديل المشع في غياهب الظلمات، ونبراس الكلمات الواثقة الهادفة في زمن الدّعي والإسفاف والترهات. أستحضر الحنين من ذكرياتي، وأغوص في يأس غابة أحزاني، إلى أين قادك الرحيل المشؤوم؟ وأنت الذي كنت تساهر القمر وتغني للنجوم حتّى تنام، تدندن على عودك وتنظم الأشعار.

آلمني كثيراً رحيلك وأسقط علي اليأس والهذيان.

أبا شادي! أنت حي في ضمائرنا، وتسكن في أفكارنا، أقوالنا، حواراتنا، كتاباتنا وآرائنا.

 كيف تناهبك الألم وتراءت لك الذكريات وأنت تعاني؟ كيف نامت في غيبوبتك الأمنيات. أيها الماضي إلى الخلود المغادر نحو العلا، تلك الكلمات التي علمتنا ما زالت تصهل في حنايانا، يخطفك القدر ويترك مرجل الحزن يكوي ضلوعنا. ويشمخ جبينك بعطاءاتك وأنت الراحل الباقي فينا، كم غنّيت للفجر الساطع أدباً وثقافة. وكم أهدرت من عمرك في سبيل رسالتك السامية. وكم أخذت بيد الكتاب الشباب، ترشدهم إلى الطريق الصواب، كم تخرج في مدرستك طلاب وطلاب من سائر بلاد العرب!

أيها المبدع في وجودك، المحلّق في رحيلك، الماثل أبداً في الذاكرة، بوح أخير لغيابك وكلمات مقهورة بداية لأسى طويل!

العدد 1140 - 22/01/2025