دعوة لذرف الدموع

 ثمة خلاف شائع بين الأجيال المتقاربة حول النظرة إلى مفهوم الزمن الجميل، إذ يحلو لكل جيل أن يحتكر حق تحديد تاريخه لأبنائه دون  أبناء الأجيال السابقة أو اللاحقة ، هذا الخلاف المزمن يحسمه علم النفس الحديث باعتباره مفهوم الزمن الجميل مجرد حالة نفسية جمعية شائعة يسميها النوستالوجيا  NOSTALOGIAويشخّصها بأنها الشعور بالحنين إلى الماضي، أو بتعبير أشمل (التوق لاستعادة ما لا يمكن استعادته )، في هذا الصدد أسمح لنفسي نيابة عن أبناء جيلي -مواليد أواسط سبعينيات القرن المنصرم -بأن أستبعد جيلنا خارج إطار هذا الجدال كليا، دون الخوض في الأسباب الموجبة لهذا الاستبعاد التعسفي وحيثياته المثيرة للأشجان. وأما عن نتف الأيام الحلوة التي لا بدّ أنها مرت بنا وإن مرور الكرام، فهي لا تعدو كونها مجرد ومضات عابرة لا تستحق النعت بأكثر من (زمن شبه جميل) على أحسن تقدير.

ومع ذلك.. يتملكني الحنين إلى تلك الومضات كلما وقعت عيناي على ذلك المشهد المؤثر الذي يفجر في داخلي كل عقدي النوستالوجية، ويثير فيّ شتى نوازع التوق لاستعادة ما لا سبيل إلى استعادته ، مشهد تمر به عيون العابرين اليوم مرور الكرام وربما تزدريه، ولكنني لا أزال أعجز عن رؤيته بغير عين شاعر يقف على أطلال ديار الأحبة.

على يمين شارع شكري القوتلي الممتد بين ساحة الأمويين وجسر فكتوريا تنبسط مساحة شاسعة من الأرض كانت فيما مضى تسمى مدينة معرض دمشق الدولي، نسبة إلى المعرض الرائد الشهير الذي كانت تحتضن فعالياته سنوياً ، في وسط تلك المساحة تقريباً وبين مجموعة من الأشجار الهرمة الشاحبة شحوب خريف العمر تقبع بقايا بركة ماء شاحبة جافة حد اليباس محاطة بأكوام من الأتربة والأنقاض ، تعلو رخامها المكسّر طبقات من الغبار المتراكم على مرّ السنين ، يتوسطها مجسّم لسمكتين متقابلتين تكادان لا يمكن تمييز ملامحهما.

 في أيام زمننا شبه الجميل.. كانت هذه البركة معلماً من معالم معرض دمشق الدولي يحرص كل زائر من زواره على التعريج عليها والتقاط الصور التذكارية إلى جانب نوافيرها النابضة حياة  وبهجة  ، فالأضواء الملونة تتراقص راسمة  هالات قوس قزح على رذاذ الماء المتطاير في الأجواء العابقة بروائح البوشار والفستق المحمّص ،ويكمل سحر اللوحة وشاعريتها صوت ملائكي يصدح في سماء دمشق:

لي فيك يا بردى عهدٌ أعيش به

عمري ، ويسرقني من حبّه العمرُ

شآم أهلوك أحبابي وموعدنا

أواخر الصيف آن الكرم يعتصرُ

لعل من عايشوا بعض تلك الذكريات – التي تبدو اليوم على قرب العهد بها أشبه بالحلم- هم الأكثر تفهّماً لِكُنْهِ ما يعتريني من مشاعر حنين، كلما مررت بتلك الأطلال الصامتة صمت القبور ، ولكن، لاشك أن تفهّم مثل هذه المشاعر ليس بالأمر العسير باعتبار أن لكل جيل ذكرياته الخاصة التي تهيج مشاعر الشوق في أفئدة أبنائه.

هي دعوة، لكل من عاش زمناً يعتبره جميلا  بتفاصيله الحلوة والمرة وما بينهما، إلى وقفة تأمّل، لا على سبيل البكاء على الأطلال ولا حتى من باب العبرة والموعظة، بل من باب شحذ القلوب التي علاها صدأ اللهاث وراء لحيظات سعادة زائفة مجردة عن المشاعر والأحاسيس. أما لأبناء جيلي وسواهم من الأجيال التي عاصرت تلك الأيام الخوالي.. أيام دمشق وبردى وفيروز، فأخصّهم بالدعوة إلى وقفة تأمل لا بالمعنى المجازي للكلمة، بل بالمعنى الحرفي لها.. بكل جدية أدعوهم إلى اقتطاع قطرات من شلال انشغالاتهم المتدفق بلا هوادة والتوقف، ولو لدقائق، على ضفة بردى المطلة على مدينة معرض دمشق الدولي القديمة وتأمّل مشهد البركة بسمكتيها الكئيبتين، وإطلاق العنان لسيل الذكريات ليجرفهم إلى حيث يعون مغزى قول الأديب الروسي العظيم مكسيم غوركي: (كم تبدو السعادة دوماً صغيرة عندما تكون بمتناول يديك، ولكنك إذا فقدتها أدركت كم كانت كبيرة وغالية).

وأقول لهم: افعلوها مرة ودموعكم يقيناً لن تذهب سدى.

العدد 1140 - 22/01/2025