الدنيا تبتلع من أراد ابتلاعها
قد لا تقلّ الأحلام الجميلة والتخيلات الساحرة والتصورات البعيدة قيمة وشرفاً وكرامة عن أي كنز حقيقي وثروة طائلة، فالأحلام تعود في بعض الأحيان على أصحابها الصابرين المثابرين بالمجد والخلود، وكل حلم حقيقي لابد أن يحيط به الكثير الكثير من الحقائق والبراهين التي تدعمه وتقويه.. وقد نجد في هذه الحياة حقائق كبيرة لا يدلنا عليها إلا الأحلام، فمثلما يدلنا العطش على الماء والجوع على الطعام، هكذا هي أحلامنا، ترشدنا إلى حقائق كثيرة غائبة عن أبصارنا، حاضرة دائماً في بصائرنا.
والحلم هو روح الخلق والإبداع مثلما النار روح النور، روح تسكن كل إنجاز عظيم وعمل مفيد، فأحلام المفكرين والشعراء والفلاسفة والكتاب والفنانين هي أرواحهم التي أسكنوها قصائدهم وقصصهم ورواياتهم ولوحاتهم ونظرياتهم الخالدة. ولا يمكن لأي إنسان أن يشعر ويحس بتلك الأرواح وعظمة أعمالها إلا إذا كانت روح ذاك الإنسان تشبه أرواحهم، وأحلامه قريبة من أحلامهم ومن آلامهم وأحزانهم وفرحهم وسرورهم.
والمبدع الحقيقي لا يرى أحلامه فحسب، بل يشعر بها تنبض وتدق وتتحرك في وجدانه وداخل رأسه، فيسرع إلى إمساكها بقلمه أو ريشته أو إزميله، أو بجسده إذا كان راقصاً أو ممثلاً أو بصوته إذا كان مغنياً، وبأوراقه إذا كان شاعراً أو فيلسوفاً، فلا يدعها تهرب من بين يديه وعينيه، يقتنصها ويجعل منها تحفة خالدة أبداً.
تلك هي أحلام المبدعين الحقيقية والمشروعة.
وبالمقابل قد نجد من يحلم أحلاماً مشروعة وجميلة بالنسبة له، لكنها قد تكون غاية في القباحة والخراب على من حوله، كهذه الحكاية عن وزير أحد الملوك الذي امتدت أحلامه وأطماعه إلى مالا نهاية:
(يحكى أن ملكاً أراد أن يكافئ أحد وزرائه المخلصين، فقال له:
بسبب إخلاصك وصدقك طوال خدمتك في مملكتي، وجدت من المناسب مكافأتك ومنحك مالا يمكن أن تتوقعه!
فقال الوزير: سوف أرضى بأي شيء يجده الملك مناسباً.
قال الملك: سوف يصبح كل متر تخطوه وتقطعه سيراً على قدميك ملكاً لك.
فرح الوزير، وبدأ يفكر بالأراضي التي سيمشي فوقها..
تابع الملك: ويمكن أن تبدأ من الآن.
وأول أرض مشى عليها الوزير هي حديقة القصر، ثم المزارع والحقول والبساتين المحيطة بالمملكة. لقد قطع مسافات طويلة، وفكّر في لحظة ما أن يعود ويكتفي بما حصل عليها، لكنه أبعد هذه الفكرة السوداء عن رأسه وتابع سيره قاصداً المدينة المجاورة والقرى المحيطة بالمملكة، وظل يمشي وتارة يركض ويهرول، وكلما تعب جلس ليأخذ راحة قصيرة ثم يعود ليمشي..
وتقول الحكاية إن الوزير ضلّ طريقه وضاع بسبب دخوله أماكن كثيرة كانت مجهولة بالنسبة له، ويقال إنه مازال يمشي حتى اليوم، محاولاً دون جدوى العودة إلى المملكة التي خرج منها.
وفي النهاية لم يمتلك شيئاً، لأنه لم يشعر بالاكتفاء ولم يعرف حد القناعة).
وهكذا تصنع الدنيا بمن أراد ابتلاعها!!