قرنفل التفاؤل
يفترّ ثغر الحياة عن يوم جديد..
فتخرج إلى عملك، متأبطا زوّادة من خبز وزيتون وأمل. تحفّ بك خيوط الفجر الأولى وهموم العيش (العاطبة)، فترسم أمامك على شاشة الأثير، ربطة خبز وأسطوانة غاز، ازدادتا علوّ كعب وشموخ أنف، إثر عمليات التنحيف والتخفيف، التي أجراها عليهما، الجرّاح الحكومي الاقتصادي.
بُعيد وصولك إلى دمشق من بوابة الجنوب، وكي تتناسى سائر مفردات قاموس الحرب، الذي يساكنك ويشاطرك سكناتك وحركاتك – منذ بدء الأزمة – ليل نهار، تجول في شوارع المدينة، ريثما يحين موعد العمل، متواطئاً مع نفسك، على السباحة في مياه النصف المملوء، من كأس الأمل. (متعربطاً) شعرة معاوية، المتبقية لك من ظفائر الرجاء، ومحاولاً ما أمكن الاعتماد على أفنان الجمال، في طرد صور البشاعات، أو تغييبها أو تضليلها، عن عنوان ذاكرتك.
مع الحذر الشديد، في توسل ما سبق، من التسبب في قطع تلك الشعرة، ملتفتاً إلى حسان المدينة الغاديات إلى وظائفهن، يهدينك قرنفل التفاؤل على أنواعه وألوانه:
من اندهاش نظرة هنا..
أو ارتباك خطوة هناك.
من نبرة ذكية لهذه..
أو رعشة سخية من تلك.
من حركة تصدر عن متحفظة..
أو كلمة تعلو من متمردة.
وتفرّ منك نظرة، لدى انعطافك في آخر (شارع الصالحية)، فتقع مقلتاك على منحوتة لريفية فارعة، تشي عباءتها الطويلة وعقالها بـأصلها الديري، وقد التفّ على عنق المنحوتة حبل، يساعد مع بعض حبال أخرى، في شد شادر، يمتد فوق حلة ذرة مسلوقة وبسطة أحذية. وتضحك لنفسك ومنها وعليها، إذ يخدش منظر المرأة (التمثال)، إنسانية مشاعرك، في الوقت الذي يضيق فيه تراب بلادك بدموع النساء: أمهات، أخوات، زوجات، وأحبة، ودمائهن!
يرن جرس محمولك، فتتلقفه بكف قلقة، لما قد يحمله لك من أنباء. فيأتيك صوت إحدى الصديقات ناشجاً، ناقلاً إليك مأساتها الجديدة، إذ تقول:
أعز و أروع تلميذ عندي، نابغة ومبدع.. يناديني ماما، البارحة جاء يودعني، قبل أن يهاجر مع أسرته. غمرته وقبلته، ولم أستطع منع نفسي عن البكاء. قرروا الهجرة أخيراً، لأنه لم يعد أمامهم خيار آخر. راتب والده، يكاد لا يعفيهم ذل السؤال وألم الفاقة في الأساس (تتابع بعيد غصة طويلة): فكيف سيكون حالهم، مع الضيف الخبيث، الذي فرض نفسه على الأم، ومع متطلباته، التي لا طاقة لهم على رفضها، ولا على تلبيتها!
وتصل أخيراً إلى مكان عملك، فتجد الناقد الفلسطيني فيصل دراج، بانتظارك على طاولة مكتبك، ليدعوك إلى فنجان قهوة، على حسابك، مع الراحل الأديب العراقي جبرا إبراهيم جبرا، الذي قضى مهاجراً. فهو يقول في كتابه عنه:
يطرح الخطاب الروائي، لرواية (السفينة) لمؤلفها جبرا، السؤال التالي:
إلى أين يهرب الإنسان؟
الجواب البسيط الواضح:
يهرب من وطن يمنع عنه السعادة.
بيد أن الجواب الجوهري يقول:
يهرب من خيبة في الحياة، لم يتوقعها. فلو أعطته حياته ما يريد، لبقي في وطنه، ولما أراد الرحيل إلى مكان لا يعرفه..