أطفالنا والفلسفة الكهربائية

 كنت أترجم لابنتي مقطعاً باللغة الإنكليزية من منهاجها المدرسي، وفيه يتحدث طفل صغير عن برنامجه اليومي، إذ يوزع وقته بين الدراسة ثم اللعب بالكمبيوتر ثم مشاهدة التلفزيون، وإذا بابنتي ( تصفن ) قليلاً ثم تقول معلقة على النص: كأن هؤلاء الناس لا تنقطع عندهم الكهرباء! ثم فهمت أنها تقسم العالم إلى قسمين: قسم تنقطع فيه الكهرباء، ونحن ننتمي إليه طبعاً، وقسم لا تنقطع فيه، وينتمي إليه بعض زملائها في المدرسة، والذين جاؤوا من أحياء أخرى غير حينا. وقبل أن أبدأ الحديث أرجو ألا تسيئوا بي الظن معتقدين أنني أفكر بالحديث عن موضوع الكهرباء، فأنا لا أحب فعل ذلك، ليس لأن هذا الموضوع بات مملاً أو لا جدوى منه – لا سمح الله – بالعكس فهو موضوع مسل للغاية، ألا تلاحظون أنه كلما اجتمع اثنان في أي مكان من بلدنا فإن حديثهم يتركز على ثلاثة محاور لا رابعة لها: الكهرباء والغلاء وطبخة اليوم! إنما لا أريد التطرق إلى الكهرباء لأني مواطنة واعية،وأقدر الظروف الصعبة التي تعمل بها حكومتنا، وقد استوعبت قصة الكهرباء جيداً، وأحمد الله بكرة وعشية على أننا ما زلنا نلمح وميضها كل بضع ساعات… لكن هذا لا يمنع أن أنقل وجهة نظر الجيل الذي لم يفهم القصة جيداً، وأقصد به أبناءنا الذين نوقظهم كل صباح للذهاب إلى المدرسة، فينهضون والظلام ما زال يلف الكون، وليس في البيت ضوء ولا دفء، يجهزون أنفسهم بسرعة، وينطلقون باحثين عن نور العلم. هل سمعتم بعض أفكارهم؟

جنة بلا كهرباء

في السرفيس كان الطفلان الصغيران العائدان من المدرسة يتحدثان عن أوصاف الجنة متأثرين بآخر درس للمعلمة – على ما يبدو – فراحا يتغنيان بأنهار العسل وبحيرات البوظة، وحبة الشوكولا التي بحجم البطيخة، وغيرها من طيبات يحلمان بها، ثم ما لبث أن أضاف أحدهما: ولا تنسى أن الكهرباء لا تنقطع هناك، فرد الآخر، بسرعة وشطارة: خطأ… فالآنسة لم تذكر لنا أبداً أن في الجنة كهرباء… وبعد ذلك خاضا بنقاش فقهي حول هذا الموضوع، إلى أن نزلت من السرفيس وأنا أتساءل بإلحاح: هل في الجنة كهرباء أم لا؟ يجب أن أعرف الجواب قبل فوات الأوان.

أنا والوزير والإرهابي

بعد أن حفظ أطفالنا برنامج التقنين الكهربائي جيداً، صار علينا أن نشرح لهم سبب انقطاعها في غير أوقات التقنين، فقلنا لهم أن وزير الكهرباء يقطعها وقت التقنين، بينما الإرهابيون يقطعونها في الأوقات الأخرى! وفي إحدى المرات اضطررت لقطعها بنفسي بعد أن أعلنوا العصيان رافضين النوم في وقتهم المحدد، صرخت الصغرى بغيظ: لقد قطعها الوزير… ردت الوسطى: بل أعتقد أن الإرهابيين قطعوها لأن الوزير يكون نائماً في هذا الوقت… عندئذٍ تدخلت الكبرى التي بدأت تفهم هذه الحركات: صدقوني ليس ذنب الوزير ولا الإرهابيين، أقطع يدي إن لم تكن أمكم هي التي قطعتها!

سر الربع ساعة الأخيرة

رغم كل ما نبذله من جهد لتفسير الحالة الكهربائية لأطفالنا، تبقى بعض الظواهر المدهشة التي نعجز عن تفسيرها لهم، فنترك لهم مهمة تفسيرها بأنفسهم، إحدى الظواهر مثلاً أن يكون موعد التقنين الساعة الثانية ظهراً فتقطع في الساعة الثانية إلا ربع، وحينما تكررت هذه الظاهرة عندنا لعدة أسابيع دون أن نعثر على الحكمة من ورائها، علّق أحد الأطفال قائلاً: هذا لأن هناك موظف شغلتو أن يقطع الكهرباء في وقتها المحدد ثم يذهب إلى بيته، لكنه يكون مستعجلاً للمغادرة فيقطعها قبل ربع ساعة ويهرب من دوامه!

أما حين تنقطع في غير موعدها لمدة دقيقة فقط ثم تعود، فتفسيرها أن نتذكر دائماً أن باستطاعتهم حرماننا منها في أية لحظة، وبذلك نشعر بالنعمة التي نعيش فيها حين يعود التيار، وتسمع هتاف الأطفال في الحارة فرحين كما لو أنهم سجلوا هدفاً في مباراة مصيرية.

العدد 1140 - 22/01/2025