زغرودة لموت الدومري وأُخرى لروائيّة جميل شقير
بلهفة، تستقبل الأم جثمان ابنها..
بلهفة، ينبش المدمن حشيشة كيفه..
بلهفة، تضم العاشقة أشياء عشيقها..
و.. بلهفة، يقصُّ ابن شقير شريط زغرودته:
(بلهفةٍ، صارت تنتظر قدومه، ودبيب عقارب الساعة يلدغ الوقت، كانت تحس بوخزة كلما انتقل نصل الدقائق من رقم إلى رقم..) (ص7).
بلهفة زمرد، بطلة الرواية رقم واحد، إذا جاز الترقيم – في مهجع المصح العقلي في (عدرا) السورية، – تنتظر طبيب عقلها وقلبها، الدكتور (حسان). يبدأ (جميل سلوم شقير) روايته: (زغرودة لموت الدومري). وباختفاء زمرد في (الهبرية) يختم:
غابت زمرد وغابت معها شمس النهار. وبقيت الأرض تحت سيطرة إشعاعات باهتة ينثرها القمر بكل الاتجاهات (ص 321).
العقل والجنون
تكاد هذه الثنائية أن تكون القائمتين اللتين تحملان الرواية، جسداً وروحاً، إلى مصيرها، عبر تنقلاتها على أرض الواقع، ومن خلال سيرورتها، صوراً ومعاني، إلى ذهن المتلقي: زمرد وحسان، الموشوم ولونا، صفية ومطاوع، النثر والشعر، اللوحة والأصل، الحلم واليقظة، الظاهر والباطن، الوعي واللاوعي، العقل والجنون، الأمانة والخيانة، اللحم والعظم، الموت والحياة، سورية ولبنان و.. الماضي والحاضر.
إلى حسان وزمرد، اللذين يشغلان مركز الحركة وعمق اللون، في لوحة الرواية. فقد تجاذبت بوصلة الضوء وعين الناظر فيها، شخصيات عدّة، منها ما أغنى التشكيل الروائي بإضافاته، أحداثاً وإحداثيات، مثل صفيّة.. مطاوع.. لونا.. رشوان.. حلا.. الموشوم. ومنها ما أشركه كاتب (فضاء ضيّق) سماء روايته الراهنة، من دون أن يضيف إليها حضوره رهجاً ولا بريقاً ك (الفاروق.. الصالح.. النهيان.. ماري.. منصور.. وأيوب..).
خيوط اللعبة
لئن أخذ المؤلف على عاتقه التحكم بمعظم خيوط اللعبة الروائية، راوياً وسارداً، بضمير الغائب، ما جشّمه عبئاً أكبر. فقد ضمنت له سلامة اللغة وسلاستها ودقة التعبير وبساطته، استيعاب المتلقي، مجريات الحكاية، من قرية (المزار) في سورية إلى مدينة صيدا في لبنان، مروراً بالشام وتل كلخ وفلسطين، بأقل المفقودات، ضياعاً، لبساً أو استعصاءً.
إلى ما ساهم به تقطيع السرد بالترقيم، في إعطاء القارئ فرصة للتوقف، و(أخذ النفس) وأعفاه من التشتت بين العنوانات الفرعية، التي يحدث أن تؤدي عكس المراد. فقد أفسح التقطيع في المجال للمؤلف، كي يؤمِّن على ما أنجز من عمله، ويتهيأ لما سيأتي. ما بين احتجاز (زمرد) خلف الشبكة المعدنية في المصحة العقلية في (عدرا) السورية، بانتظار (حسان) ثم سفرها إلى مشفى الطب النفسي في لبنان. ورجوعها إلى سورية في رحلة سياحية، واحتجابها خلف قضبان الغيب، إثر دخولها – على الرغم من تحذير حسان لها – نفقاً لا تعرف نهايته في آثار (الهبّرية) جنوب سورية. مسافة لا تزيد على 321 صفحة قطعاً وسطاً . يصحبك صاحب (النير) في رحلة تعود بك إلى ما قبل آلاف السنين. يعرض المؤلف في روايته، من خلال ثلاث أُسرٍ من بلاد الشام (سورية، فلسطينية ولبنانية)، لقضايا اجتماعية وسياسية وتاريخية وفكرية، عدة، بضمنها الحرب في لبنان، في ثمانينيات القرن الماضي. وما تضمنته تلك الحرب من مذابح في المخيمات الفلسطينية، بدءاً ب (تل الزعتر) مروراً ب (صبرا) و(شاتيلا) وصولاً إلى (نهر البارد) و(حصار بيروت). وما خالط تلك الحرب (السيا/عسكرية) من تداخلات وتقاطعات محلية وإقليمية ودولية، تمخضت مجتمعة، عن خروج المقاومة من لبنان.
نهدا الريح
ثمة في (الدومري) عملية، بالأحرى لعبة فنية، تنتظم سردية الرواية، مخترقة تقطيعها الرقمي، يمكن تسميتها (الوصل المتمفصل) أو (الفصل المتموصل) تعطي الرواية تشكيلاً في السرد وإقواءً في البناء. فقد تآلفت في (الدومري) وتوالفت، من دون أن تتداخل أو تتشاكل ثلاثة أنواع من السرد:
السرد النثري ذو اللغة الأدبية البسيطة السليمة والمقتصدة:
(- يا ربّي ماذا جنينا حتى تلحق بنا السماء كل هذا الغضب؟
أبي، أخي، وأخيراً أمي؟
يلتفت إليها العم مروان ويخاطبها بذهول:
– ومتى ماتت أمك؟
غصت زمرد بدموعها وقالت:
يا ليتها ماتت يا عمي.
أيقن العم مروان أن في الأمر ما هو أسوأ من الموت.. (ص 21).
السرد الشعري ويشتمل نثراً شعرياً أو شعراً خالصاً، مثلما جاء في الإهداء وضُمِّنَ في متن الرواية:
غيابها… يشتت الروح
وأصير نهباً لحضورها الموهوم.
تغويني التفاصيل
أضم الريح
أضع رأسي بين نهديّ الهواء
أُطبق على شفتيه
ويسقط اشتهائي
فليس للهواء خصرٌ يتلوّى
ولا خدان يلتهبان. (ص 5).
السرد الفلسفي. وفيه يختلط التاريخي بالآثاري بالفكري بالديني وبالماورائي:
.. امرأة برونزية البشرة، وشعر رأسها الفاحم الطويل، كان يداعب نهديها بعبثية، وحلمتاها مستنفرتان، ويبدو أنها تستجيب لنداء رجل، يقف فوق أعلى الأكمة البازلتية السوداء. اقتربتْ ووقفت أمامه، ولم يكن يفصلها عنه إلا قبضة من ريح، فكّت ربطة من سريد جلدي، كان يستر ما تحت بطنها، ثم يفك هو سريداً آخر، مما سمح لشبرين من جلد الماعز، أن تنهار إلى الأرض.. (ص 149).
معزوفة العنوان
معروفٌ أن الموطن الأصلي للزغاريد، هو الأعراس خاصة والأفراح عامة. وبما أن الشهيد في أعرافنا وأعراف أغلب الشعوب، يعتبر عريساً، والشهادة عرساً، فمن عاديات الأمور أن يطلق العنان للزغاريد وللرصاص في كلا المناسبتين (الزواج والاستشهاد).
في حين لم نقع في تضاعيف الرواية، على أي أثر لمفردة (دومري) أو مشتقاتها – بصرف النظر عن موته أو عدمه – فقد وردت كلمة (زغرودة) مرة واحدة، أثناء تسجيل زمرد في دفترها الأحمر أحد المشاهد التي تنتابها أثناء الغيبوبة أو الحلم. لدى وصفها ما كان يجري أمامها في الأكمة البازلتية (جنوب سورية) بين الرجال الطوال والرجال القصار حينما تقول:
(.. أما العرافة (الميدوسا) فقد زغردت، قبل أن تدير قفاها وتختفي) ص22.
من قرأ (جميل شقير) في روايته السابقة، ويقرؤه في(زغرودة لموت الدومري). قد يرى الأخيرة متابعة وامتداداً للأولى. وأن الكاتب، باختياره عنوان عمله الحالي، لا يجذّف بعيداً عن الرمزية (المياه الإقليمية لعنوان روايته السابقة (التجذيف في الوحل)). بيد أن ذلك لا يعني، ولا يُسْتَحسن، أن تأتي الرمزية عينها في كلا العنوانين، نوعاً ومستوى. وقد يرى قارئ آخر أو ناقد ما، أن عنوان الرواية الأخيرة (زغرودة..) هو من عائلة العناوين المُفارِقَة لمتونها، ولا تمت إليها برمز وغمز ولا ببيان وإعلان. وكما تزغرد النسوة فخراً لاستشهاد الصديق، يزغردن أيضاً لقتل العدو. وليس في المجازفة القول، أن صاحب (الرقص على أسوار بابل) قد رقص في تسمية روايته التي نحن بصددها، على غير سور ووتر لمعزوفة العنوان.
يصعب على غير قليل من متذوقي الأدب، أقلّه (المدّعي محبّر هذه السطور وأمثاله) حبس إعجابهم بهذه الزغرودة، موضوعاً وتكنيكاً ولغة، مثلما يصعب عليهم، في غير موضع وموقف حبس دموعهم لدى مطالعتهم فصولها لها، ما يحفزهم لقراءة المزيد من إبداع أديب، حسبه من شرف الكتابة ما تقدّم!