شفاه وسجائر
أكاد لا أصدق نفسي، هل من المعقول ذلك؟ للتو كنا في سيرتك..هكذا بادرته قائلة، وهي تغمره بذراعيها، وتحتضنه برموش عينيها، عندما فاجأها في طريقها إلى العمل، قبل أن تكمل، رافعة سبابتها وصوتها بنبرةٍ مشاكسة:
لن أطلعك الآن، مع من كنت أتحدث من أفراد الشلة، فقط سأخبرك ماذا قالوا، مشيرة إلى كل منهم بالحرف الأوَّل من اسمه.. اتفقنا؟ أضافت مرفقة تساؤلها بحركة من رأسها، تكفَّلت مع ما يثيره فيه تبعثر شعرها من رغاب، بموافقته، لا على ما قالته فقط، بل وعلى ما أضمرته.
اتفقنا! أجابها بعد ثوانٍ، تبدّى له فيها الوجه الآخر لغيابه، بما أسفر عنه من تقصير، بحق ما نمّت عنه حركتها تلك، بحق معشوقته وحق نفسه أيضاً.
وراحت تخبره باختصار شديد..
(ع) قال لي عنك: يكفيه ما هو فيه، يكاد لا يقر له قرار، لأنه موزع ما بين أعباء العمل وهموم الأسرة ومآسي البلد. إن كنتِ تحبينه حقاً، تعذرينه وتحملين معه.
(ق) قال: أنا أقول لكِ اطلبيه.. قابليه واشبعي منه صوتاً وصورة ووصلاً.. اغتنما حضوركما، وجداً وتواجداً وتماهياً. فالأيام تركض والزمن لا يؤتمن له. ثم زجرني ناصحاً ولافتاً إلى قول عمر الخيام:
واغنم من الحاضر لذّاته
فليس في طبع الليالي الأمان
أمَّا (ل) فقد تظلم قائلاً: مع أنني لا أعبّر إلا عن حقيقة مشاعرك ولا أنطق إلا بما تملينه عليّ، تأتين في الآخر لتتنصلي مع صاحبك، من المسؤولية، وتلقيا بالتبعات عليّ. من الآن فصاعداً، اعملي ما ترينه مناسباً واتركيني بحالي!
ولما لم يجدِ نفعاً معه توسلاتها الاختلاء به، بعيداً عن الإنس والجن، لم ترَ بدّاً عندئذ من اللجوء إلى أقرب حديقة.. جلسا إلى أبعد مقعد من مدخلها.. اشتريا فنجاني قهوة من كشك على الطريق. ومع ارتشافهما القهوة، دخّنا كثيراً من السجائر.. توازعا كثيراً من الهموم.. أطفأا شوق اللقاء، لمرة.. وأشعلا كثيراً من الأشواق..
وقبل افتراقهما، هي إلى مكان عملها، وهو إلى مهمته الجديدة في الدفاع عن أهله وأرضه. استوقفته متسائلة مستغربة سبب عدم سؤاله لها، مع من كانت تتحدث عنه. وعن عدم غيرته منهم. وهو من كان يغار عليها من (..) غامزة إلى احتمال أن تكون امرأة أخرى، قد دخلت على الخط بينهما.
أجابها مبّرداً قلبها قائلاً:
لم أسألكِ لأني عرفتهم. ولم أَغَرْ منهم، لأنهم ليسوا كغيرهم. فهم (شكل ثاني)، كما تقول نجاة الصغيرة في إحدى أغانيها. وكي تقطعي الشك باليقين، لجهة صحة معرفتي بهم، سأحلّ لك الحزّورة: (ع) هو عقلك.. (قاف) هو قلبك.. و(ل) هو لسانك.
ومع استنفادهما اللقاء، حتى آخر لحظة وآخر سيجارة، تعانقا وتواعدا.. أوصته ما استطاع، الحفاظ على نفسه، أقلّه من أجلها. وأوصاها الاحتفاظ بكل ما يقوله عنه ويستغيبه به أفراد شلّتها، أقلّه من أجله.. واعداً أن يسميهم لها فرداً فرداً..