كي لا ننسى….برهان دللو..أستاذ التاريخ الذي كرّس حياته للتنوير
أستاذ مادة الاجتماعيات في مدارس دمشق الثانوية من عام ،1955 الذي ترك بصماته على جيل كامل من طلاب دمشق الذين عاصروه ودرسوا لديه. كان ينتمي إلى أولئك المدرسين الذين أضافوا شيئاً جديداً إلى العلوم الاجتماعية في أوائل ومنتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ونظروا إلى التراث من منظور نقدي، وسحبوا عنه الطابع التقديسي الذي غالباً ما كان هو السائد في ذلك الوقت.
إن هذا الدور التنويري لجماعية الأساتذة الذي اشتغلوا في هذا المجال كان له تأثير هام في بلورة الاتجاه النقدي في دراسة التاريخ العربي والإسلامي، والذي تابعه جيل آخر مكملاً ما بدأه هؤلاء.
إليهم كان الأستاذ برهان دللو ينتمي.. إن مدينة دير الزور التي ولد فيها عام 1927 وتلقى علومه الابتدائية والثانوية، أنهى دراسته في جامعة دمشق، كلية الآداب – قسم الاجتماعيات.. هذه الجامعة التي كانت إحدى المنارات العربية الهامة في ذلك الوقت، والتي لعبت دوراً بارزاً في النضال المعادي الفرنسي، والديمقراطي، والمعرفي، والعلماني، والتي خرجت مجموعة لا يستهان بها من المفكرين والعلماء النهضويين.
تعرفت على الأستاذ برهان دللو وأنا طالب آنذاك في الصف العاشر في ثانوية ابن خلدون، والتي كانت تقع في ذلك الحين أمام البرلمان السوري. كان دروسه التاريخية محط جذب وانتباه الكثيرين من الطلاب الذين وجدوا فيها شيئاً جديداً لم يألفوه سابقاً، شيئاً جديداً يتحدث عن التاريخ كنشاط بشري، شيئاً جديداً أنزل هذا النشاط من عليائه إلى الواقع، ولقد خلق لدينا نحن الطلاب آنذاك الذين كنا ننظر إلى التاريخ كشيء مقدس لا نقاش فيه، خلق لدينا النزعة النقدية بصورتها الجنينية آنذاك، الموجهة باتجاه دراسة التاريخ ليس من منظور إيماني، وإنما من منظور علمي ونقدي، من منظور أنه نشاط للناس، يحوي في داخله كل شيء السلبي والإيجابي.
كان النضال الديمقراطي في سورية يتنامى بصورة متسارعة، وكانت الحركة السياسية ناشطة آنذاك بكل تياراتها الشيوعية والقومية والدينية، وقد حدد الأستاذ برهان دللو طريقه بوضوح. كان يرى في الحزب الشيوعي السوري المفتاح نحو التغيير الديمقراطي، ونحو العدالة الاجتماعية حلم البشرية. ومنذ ذلك الحين وقف الأستاذ الشاب برهان دللو إلي جانب الحزب، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من معاصريه المتنورين.. بيد أن التغيرات اللاحقة التي طرأت على الساحة السياسية في سورية، أوقفت هذا المد الديمقراطي، وتعرض المدرس برهان دللو للاضطهاد والضغط السياسيين، إلا أنه بقي مخلصاً لأفكاره.
لم يتراجع عنها أبداً، كانت لديه قناعة كبيرة بضرورة احترام أفكار وعقائد الناس، وكان يملك من الكرامة ما يجعله يرفض التخلص عن أفكاره التي آمن بها.
تدور الأيام، وألتقي بالأستاذ برهان بعد سنوات من الغياب، وتتجدد علاقتي به، ليس كأستاذ، وإنما كصديق تجمعنا الكثير من الأفكار المتقاربة. ولقد كان متألماً جداً بسبب ما حل بالحزب الشيوعي السوري من انقسامات لا مبرر لها، والتي نأى بنفسه عنها..كان يرى فيها إضعافاً لدور الحزب الوطني والديمقراطي في البلاد، وكان يهيب بمن يعرفهم للعمل على إعادة الوحدة للشيوعيين، التي كان لا يرى فيها ضرورة اجتماعية فقط، وإنما ضرورة وطنية.
كنا نلتقي كثيراً، وغالباً ما كنا نناقش مسائل التاريخ.. لقد ألّف أكثر من عمل تاريخي كانت تصب جميعها في مجرى النظرة العلمية والموضوعية للتطور التاريخي في منطقتنا، منها على سبيل المثال: (المساهمة في إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي- الاتجاهات ذات الطابع الاجتماعي عند العرب في العهد الوسيط- بلاد الشام أربع مجلدات (التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي) وغيرها من المؤلفات).
يقلقه كثيراً ويخيفه تغلغل الثقافة الاستهلاكية بين صفوف الشباب، وكان يحزنه كثيراً التراجع المخيف للثقافة الحقيقة أمام الهجوم الواسع لهذه الثقافة، بسبب تراجع القيم الديمقراطية.. ومع ذلك كان يؤمن أن هذا التراجع الفكري والثقافي في البلاد هو مرحلي، وأن سورية ستستعيد مقعدها الثقافي النهضوي ودورها المؤثر في تطور الفكر التقدمي في المنطقة والعالم.
توقفت حياة هذا الشخصية التنويرية والنهضوية في أواخر القرن الماضي، إلا أن تراثه سيبقى جزءاً من تراث سورية التقدمي الذي لن يصيبه التقادم.