شمالة عطر
من طبيعة الناس، الاختلاف أو الائتلاف، نسبياً، على الأمور، حسب مؤهلاتهم وإمكاناتهم. بدءاً من المرجعية التي يرتكزون إليها، والزاوية التي ينظرون منها، وصولاً إلى روزها ومحاكمتها، وانتهاءً بتقدير تلك الأمور وتقييمها، مادياً ومعنوياً.
لا أقول ذلك، من باب اكتشاف حقيقة، أو اجتراح نظرية، لاسيما أن المشار إليه، يندر أن يتشاكل عليه عاقلان. وإنما للإشارة إلى أن معظم الافتراقات (فكرياً/اجتماعياً/وسياسياً)، بين الأفراد والجماعات، في مجتمع ما، تتحصَّل بسبب إهمال تلك الحقيقة وتهميشها، أو عدم التعويل عليها، بقصد أو من دونه.
***
اقترفت إطالة المقدمة، لا حباً بالإطالة، التي تتعارض أصلاً، مع طبعي في الإيجاز والإنجاز، قولاً وعملاً، ولا ولعاً بالتنظير، الذي لست من هواته، ولا من الطامحين لإشغال كرسي فيه أو (طربيزة). لكن جاء ما جاء، محبة لزميل وصديقة، بما هما كذلك أولاً، واحتراماً وتقديراً للشريحتين الاجتماعيتين، اللتين يرجعان إليهم في شعبنا. وهنا أسارع للاعتذار، عما سلف وما سيلحق، من تكريسي – شئت أم أبيت – هضم حق الأنثى لغوياً، لدى تشميلنا أنثويتها ضمن التذكير، (إشارة وصفة وتثنية وجمعاً).
***
زميلي، موظف طيّب وخدوم، ومن بيئة محافظة، اجتماعياً وفكرياً، كثيراً ما يتهمني أنني في كتاباتي، أسبح في محيط غالباً ما تكون مياهه متحيّزة متحاملة وانتقائية. وإذ لا أنفي التهمة، بل أؤكد صحتها، لا ضير من أن أبيّن بعض ما لا يكمن فيه شيطان، من التفاصيل التي أغفلها الزميل:
نعم متحيزٌ، لكن.. للحقيقة وللعدالة وأخواتهما..
نعم متحاملٌ، لكن.. على الفساد والبطلان وإخوانهما..
ومُنتقٍ، نعم، لكن.. للخطأ قصد إصلاحه، وللسلبية من أجل الخروج منها وتلافيها..
وأستسمح الزميل، في أن أقبس للقراء، مُنتقياً، من أحكامه التي يعلنني إياها معاتباً، بعض ما تجود به ذاكرتي البخيلة:
عندما أكتب منتقداً، ظاهرة أو أخرى، من ظواهر الفساد الذي تسبب استشراؤه وعدم مكافحة أسبابه ومعالجة نتائجه (وغالباً ما أكتب)، يصفني الزميل بالتحيّز للمعارضة، حيناً..
وبالتحامل وعمى الألوان، لأني أُغمض عيني عن الأبيض في اللوحة، أو في أحسن الأحوال، لا أرى إلا السواد، حيناً آخر..
وأكثر الأحيان ينعتني بأنني انتقائي، لا أصوّبُ إصبعي وقلمي إلا باتجاه الاستثناء، (الموجود في كل دول العالم)، مُهملاً تعافي القاعدة المتوافرة عندنا، نصاً وقولاً.
أمّا خطورة مرض أن تتقلص القاعدة وتهزل وتنكمش، لتُمسي استثناءً، وينتشر الأخير ويتمدد ويتفرعن ليصبح قاعدة. فذلك ما لا يعيره زميلي الطيّب انتباهاً، ولا يوليه اهتماماً.
أما حين أعرض، فيما أكتب، لنقطة إيجابية، أو أنوه بفعل يستحقّ صادر عن منصب أو مؤسسة ما في الدولة، فلا ينسى زميلي أن يُجيّر عرضي وتنويهي، إلى التمويه تارةً، وإلى التطعيم تارة. والتطعيم هنا – كما يتضح من تقاسيم زميلي وجهاً وصوتاً – يُقصد به، إطعام ما يطيب، وصولاً إلى ما يُميت. وليس تهجين السيئ ليغدو حسناً، والحسن ليغدو أحسن!.
الصديقة، معلمة لمّاحة ومُحبة، من أسرة وبيئة منفتحتين تربيةً وتنظيماً. كثيراً ما تلاحظ عليَّ، استحساني اللون الأسمر عامةً، وحبّي السمراوات خاصة. وبقدر ما تنطوي عليه ملاحظاتها، من الصدقيّة والأريحية، والمساءلة جمالياً وأدبياً وعاطفياً أجدني تجاهها أعزلاً، لا رغبة لي بالتأكيد ولا بالنفي.
لا أردُّ شعوري هذا إلى براغماتية أتلفّعها، في سبيل فائدة أجتنيها. كما قد تُخمّنُ (فاطمة) مِنْ السمراوات أو (مريم) من البيض. ولكن لا الواقع ولا التاريخ ولا علم النفس ولا علم الجمال ولا علم المنطق، يُقرُّ بأن مَنْ تُحب الأسمر، على سبيل المثال، لا تحب الأبيض.. ومَنْ يهوى الشقراء لا يهوى الحنطية.. الخ
غير أن ذلك لا يعني نفي أن يميل (غازي) من الشباب إلى (هديل) البرونزية، أكثر مما يميل إلى (أشواق) الخمرية. بيد أن ميله ذاك، لا يعود إلى لون بشرتيهما، بمثل ما يعود إلى ما تستوي عليه كلٌّ منهما، من حُسن الخَلق والخُلق واللفظ والمعشر والطويّة، وسوى ذلك من صفات.
***
ختاماً..
ودعماً لرأيي، الذي يُشابه كثيراً من الآراء، في أن الجمال الذي يميل إليه أحدنا، لا ينحصرُ ولا يُختصرُ في لونٍ بذاته، أو في صفةٍ بعينها. وإنما ينتسب إلى حراك، صفات ومزايا عدة، يتوافر عليها المحبوب أو المحبوبة واشتراكها واتحادها.
أقول ختاماً للمقال، ودعماً لرأيي، وإهداءً لزميلي وصديقتي.. للقراء.. وللعاشقات والمعشوقات من جميع الألوان. أنتقي المقطع التالي من أحد ألوان الشعر:
(يا قلبي حرامْ عليكْ
ملوّعني وما بسخى فيكْ
إنْ شِفتْ الحلوي بالجوّ
بتطلعلا بالتل فريكْ
البيضا متولّعْ فيها
ومش معقول تجافيها
هاذي القدرْ عاطيها
حتى قالتْ خوذْ عليكْ
والشقرا قويّةْ حظّ
حُبّا بيفْرضْ حالو فرضْ
الموسيقا بتجتاحْ الأرضْ
إن كانتْ ماشية تْكْ تريكْ
أمّا السمرا شمالةْ عُطرْ
بتطوي الروحْ بليّة خصرْ
طيبا إنْ فَوّحْ تحت الصدرْ
براسكْ يفتح شبابيكْ)!