ترامب يُمثّل ظاهرة أمريكية «مكبوتة»؟
هناك علاقة بين قراءة الظواهر المجتمعية وفهم الحالات الفردية لدى بعض النخب السياسية، فالفرد غالباً ما يعكس أثناء انخراطه في الشأن العام، مزاجاً سائداً أو آخر كافياً في مجتمعه وبيئته، وبالتالي فمن المؤكد أن معاينة الذاكرة المكبوتة للفرد تشكل جزءاً أساسياً من عملية قراءة بعض الظواهر المجتمعية بما تحويه من أفراد (استثنائيين)، وتحليلها، وفهمها.
قياساً على ذلك، يكون للمجتمع، كما للفرد، (ذاكرته الجمعية المكبوتة) أيضاً، وهكذا يصبح الفرد قادراً على ملاقاة نزعات مجتمعه عبر إعادة إنتاجها.
في شهر نيسان من عام 1865 انتهت الحرب الأهلية الأمريكية، وكان من أهم تبعاتها دخول القوات الفدرالية منطقة (تكساس) آخر (قلاع) العبودية في أمريكا، حيث جرت عملية تحرير العبيد من السود، وفق التعديل الدستوري الثالث عشر، أو (إعلان الحرية) الخاص بالرئيس الأمريكي آنذاك إبراهام لينكولن.
قالت أمريكا إن جميع العبيد أصبحوا أحراراً بشكل رسمي يرعاه القانون، الأمر الذي جعل من الرئيس الجمهوري لينكولن أحد أكثر الشخصيات شعبية في تاريخ الولايات المتحدة، خاصة في العقود الأربعة التي تلت رئاسته. إذاً، حافظت أمريكا بعد التحرير من العبودية المقوننة، بشقها غير الرسمي، على منسوب مرتفع من العنصرية في مسألة التعاطي مع (غير البيض) وتحديداً مع الأقلية السوداء..
بعد مرور مئة عام تقريباً على التعديل الدستوري في الثالث عشر أو (إعلان الحرية) عام 1865 جاءت الثورات المجتمعية في وجه العنصرية، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، واغتيال الثائر الأمريكي مالكون إكس عام ،1965 لتشكل دليلاً على أن ما ألغته القوانين استمر موجوداً في مستويات لا يطولها المشرّعون، ولتشكل أيضاً مقدمة لبداية انسلاخ جديدة بين شرائح المجتمع الأمريكي، ولكن في ظل الدولة الفدرالية، ومن دون مفاعيل دستورية أو قانونية، وبشكل (انسيابي) استمر لفترة طويلة في عملية تكوين الوعي لدى الجيل الناشئ.
ويؤكد العديد من مؤرخي التاريخ الأمريكي أن لأمريكا وجهين اثنين، الأول تريد إظهاره لنفسها وللآخرين بشكل دائم، والآخر يبقى عالقاً في خزائن الذاكرة القريبة قبل البعيدة، وإعادة إنتاج الحالات شديدة العنصرية مثل ترامب ليست عملية شديدة التعقيد أو الحساسية، لكن المحرج دوماً هو الثقل الشعبي والزخم المجتمعي الذي يخرج فجأة من (قمقمه) ليعلن أن فلاناً هو تمثّلٌ لحالة عالقة في المخيلة العنصرية التي تعبر عن نفسها بطريقة خاصة.
إن واحدة من أكثر الحقائق كبتاً في التاريخ الأمريكي والغربي، إضافة إلى المجازر بحق السكان الأصليين لأمريكا الشمالية (الهنود الحمر)، هي الظاهرة التي سماها الغرب (حدائق حيوان بشرية)، مع تسميات أخرى أقل جدية مثل (المعارض العرقية) أو (مستعمرات الزنوج) وهي عبارة عن حدائق حيوان كاملة بأقفاصها ومراعيها الصغيرة، إنما تستخدم البشر عوضاً عن الحيوانات، وكانت من أكثر ظواهر (الترفيه العائلي) انتشاراً في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا إلى وقت غير بعيد نسبياً، فقد شهدت (حديقة نيويورك) زيارة ملايين المواطنين في بداية القرن العشرين، في حين شكلت (حديقة باريس) الظاهرة الأكبر بين (حدائق الحيوانات البشرية) في الغرب، حتى إقفالها في عام ،1931 وعادة ما كان سكان هذه الحدائق من الأفارقة والأسكيمو وسكان الجزر والغابات الآسيوية، إضافة إلى أصحاب العاهات والتشوهات، وغالبية هؤلاء كانوا يسرقون من قراهم عبر مرتزقة متخصصين، وقد شكلت تلك الحدائق مراكز التسلية الأساسية للأفراد والعائلات.
إذاً، لم تعد خطابات دونالد ترامب ومهرجاناته مجرد انعكاس لقناعاته وأفكاره فقط علماً بأنه قد يتعرض أحياناً في نهاية كل خطاب أو مهرجان لاعتراضات من ناشطين حقوقيين، أو من قبل مواطنين أمريكيين يتهمونه بالعنصرية وتهديد النسيج المجتمعي الأمريكي، وهذا بالطبع يدل على جانب من (الوعي) الأمريكي لتحديات يمكن أن تعيد الداخل الأمريكي إلى حقبة يريد الكثير من الأمريكيين- ظاهراً- أن يتجاوزوها، لكن هذا الكثير بات اليوم أمام امتحان حقيقي لإظهار توجهاته وحجمه على الأرض، فالانسيابية التي مر من خلالها (ترامب) وخطابه المثير للجدل يشكلان دليلاً على أن قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي. تشارك الرجل قناعاته وتصوره المستقبلي للولايات المتحدة، وإلى حد ما تعد تظهيراً عملياً للجانب الخفي (المكبوت) دوماً في العقلية الأمريكية أو على الأقل في عقلية قسم كبير من الأمريكيين.
صحيح أن هناك تنافساً بين عدة مرشحين، ما يشي بأحوال ديمقراطية، لكن الصورة هذه لا تستطيع إخفاء حقيقة واضحة، مفادها أن (المجنون) ترامب وجد لخطاباته صدى قوياً جعل منه (نصف رئيس) بالقوة في مقابل الشعبية التي يلاقيها. لقد ظن الجميع أن (جورج بوش الابن) سيشكل أحد أكثر الحالات تطرفاً في تاريخ الولايات المتحدة، وبالفعل لم يخيب الرجل آمال الكثيرين من منتقديه، لكنه على علاته لم يكن على مستوى من (البذاءة) السياسية مقارنة مع ترامب.
فترامب أنتج حتى (نظرية عابرة) لكن حدود المنطق الرسمي الأمريكي، تثبت وجود شرخ كبير في المجتمع الأمريكي كان بانتظار من يستثمره بنجاح، وتحول هذا الشرخ إلى قنابل انتخابية مثل: منع المسلمين من دخول أمريكا، وبناء جدار عازل مع المكسيك، وطلبه من مناصريه (ضرب) أي معارض في مهرجاناته الانتخابية على أن يتولى هو شخصياً دفع تكاليف المحاكمات!!
قد تكون لممارسات ترامب وقناعاته تفسيرات عديدة منها: أنه لم يتمكن من الفصل ما بين العمل الإعلامي والعمل السياسي، أو أن شخصية الثري المرفّه تسيطر على أدائه، وأمور أخرى، لكن الأساس يبقى هو اللقاء (غير المارق) ما بين شخصيته وأدبياته العنصرية، وجزء أساسي من مكونات المجتمع الأمريكي، وهذا يدل على مكامن خلل واضحة، فالرفاهية (الكابتة) لتناقضات الشارع لا يمكن أن تستمر إلى الأبد برعاية رأسمالية مفرطة.