عبد الكريم طيارة.. مناضل كرّس حياته للدفاع عن مصالح الفقراء

في مدينة طرطوس الهادئة على شاطئ البحر، والتي كانت، في العشرينيات من القرن الماضي، تشبه إلى حد بعيد، قريةً كبيرة، وُلد عام 1925 عبد الكريم طيارة، من أسرة ميسورة نوعاً ما، وهو الذي سيصبح فيما بعد أحد قادة الحزب الشيوعي في الساحل السوري.

لم يعرف شظف العيش، وكانت الظروف متاحة له أن يدرس في أفضل ثانوية طرطوس آنذاك، وأن يتابع تعليمه فيما بعد ليتخرج في كلية الحقوق، وليصبح محامياً معروفاً على نطاق جميع مدن الساحل.. بيد أن إحدى العلامات البارزة في حياته كانت انتسابه إلى مدرسة اللاييك في طرطوس أوائل الأربعينيات، التي كان يرتادها أبناء العائلات الميسورة في محافظة اللاذقية، وتعرّفه، وهو طالب، إلى رئيف خوري، الأديب اللبناني الشيوعي المعروف، الذي كان يدرّس فيها مادة اللغة العربية، والذي مارس تأثيراً كبيراً على عدد من طلاب هذه المدرسة، وكان من بينهم عبد الكريم طيارة، الذي أصبحت تتوضح أمامه تدريجياً نتيجة ذلك أسبابُ الفقر والجهل والعوز التي تعانيها غالبية أهالي المنطقة، وخصوصاً في الريف المنسيّ تماماً.. ودفعه كل ذلك ليبدأ بالتعرف إلى حياة الناس ومآسيهم.

إن إنسانيته العميقة جعلته يجد نفسه في صفوف الحزب الشيوعي السوري عام ،1945 ومنذ ذلك الوقت، ربط مصيره بمصير هذا الحزب، ولم يبخل بأي شيء من أجل فقراء منطقته وجماهيرها الشعبية.

انخرط عبد الكريم طيارة بكل قواه في نشاط الحزب وطنياً واجتماعياً، وساهم مساهمة فعالة في جميع نضالات الحزب، لا في طرطوس وحدها، وإنما على نطاق الساحل السوري كاملاً.. فقد قاد العديد من التظاهرات المطلبية، والمعادية للديكتاتوريات وضد الأحلاف، وساهم في تنظيم حملات التواقيع على العرائض وإرسال البرقيات والوفود للاحتجاج على العسف والاضطهاد الذي كان يقع على أناس العمل. وكان من نتيجة هذا النشاط الواسع للمناضل عبد الكريم أن اعتقل عدة مرّات، وتعرض للتعذيب والمحاكمات والسجن.

لا يمكن تعداد ما قام به هذا المناضل من نشاطات وطنية أو اجتماعية أو سياسية، إلا أن اشتراكه في مظاهرة فلسطين، إثر قرار التقسيم عام ،1947 وقمعها من السلطة الحاكمة وقتذاك، كان له أثر كبير عليه.. كما أن مشاركاته الشجاعة ضد شركة التابلاين الأمريكية، وضد الاتحاد مع عراق نوري السعيد وضد الديكتاتوريات المتعاقبة، دفعته إلى مقدمة المناضلين في الحزب الشيوعي السوري أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وأصبح أحد قادة الحزب الشيوعي على نطاق محافظة اللاذقية.

عرفته سجون طرطوس واللاذقية ودمشق، إلا أن الامتحان الأكبر الذي تعرض له الشيوعي عبد الكريم طيارة كان عام ،1959 عندما اعتقلته مباحث عبد الحميد السراج، وزجت به في سجن المزة، واضطهد وعذّب، ومورست عليه أقسى الضغوط كي يتبرأ من انتمائه للحزب، ويعلن براءته منه ومن أفكاره.. إلا أنه لم يتزعزع أمام قساوة هذا الامتحان، وفضّل تحمّل ذلك، مضحّياً بمصالحه وبكل شيء لقاء أن يبقى محافظاً على كرامته الإنسانية.

بعد أن سقطت الوحدة السورية المصرية نتيجة الأخطاء غير المبررة التي ارتكبتها الأجهزة المباحثية التي تحكّمت بالبلاد، ونتيجة عدم الاعتماد على الجماهير الشعبية في ثبيت دعائم الوحدة، وعدم مراعاة الظروف الموضوعية التي كانت تميز كلا البلدين، يخرج عبد الكريم طيارة من السجن، ويندفع من جديد في النشاط الحزبي، دون تردّد، بيد أنه، شأنه في ذلك شأن الكثير من المناضلين الشيوعيين الآخرين، وجد نفسه غير معنيّ بالانقسامات التي عصفت بالحزب الشيوعي السوري والحركة الوطنية في البلاد، والتي وجد فيها إضعافاً لدورها الوطني والاجتماعي، وتقوية للقوى التي تريد العودة بالبلاد إلى القرون الوسطى، غير أنه بقي مخلصاً حتى النهاية لتراث الحزب والحركة الوطنية النضالي، وبقي حتى آخر لحظة من حياته يذود، وهو المحامي المعروف في طرطوس، عن مصالح الجماهير الشعبية وقضاياها بكل ما يستطيع من قوة.

إن تراث عبد الكريم طيارة هو جزء من تراث الحزب والحركة الوطنية الكفاحي الذي يجب أن تحافظ عليه الأجيال القادمة، والذي يجب أن يبقى في الذاكرة.

العدد 1140 - 22/01/2025