الحكومة بلا عقل اقتصادي

 تغيب عن الحكومة الحالية الذهنية الاقتصادية، ويغلب على أدائها الطابع الإجرائي اليومي، متفوقاً على المخطط، المنطلق من احتياجات الواقع المرير الذي نعيشه، ويعاني منه ملايين السوريين الذين تطولهم الحرب بمراراتها ومآسيها المختلفة. ويتصدر الشأن الاقتصادي عمل كل الحكومات، إلا حكومتنا، إذ إنها تضع هذا الملف في خانة متأخرة على سلم أولياتها، وتؤجل دفعه إلى الأمام، برغبة غير مفهومة، رغم طفوه على سطح القضايا الأخرى باستثناء هذه الحرب الطاحنة التي التهمت مقدرات البلاد لاسيما البشرية منها.

فكل المشاريع التي أقرت سابقاً، واللجان المشكلة، صارت أثراً بعد عين، وكالعادة أدخلت مقترحاتها الإصلاحية في غيبوبة قسرية، وربما أتلفت، رغم أنها ولدت من رحم الأزمة الراهنة. لا يوجد بلد في العالم يضاهي سورية في تشكيل اللجان، وتحديد مهامها، ومن ثم تجاهل ما تقدمه علناً! هذا ليس جلداً للذات بقدر ما هو توصيف للواقع، وتحديد لجوهر حالات الترهل والتجاهل واللامبالاة وعدم المسؤولية، في الاستفادة من مقترحات خيرة الخبراء، والمهتمين، والأكاديميين. هذا تناقض يجب أن نعترف به، ونقرأ مخاطره، ومن ثم نسأل حكومتنا الرشيدة، لماذا لا تتعامل بعقل اقتصادي مع مشكلاتنا؟ ولماذا تعتمد علم الغيب بدلاً من علم الواقع؟ ولماذا تستعين بخبرات أقل كفاءة مما هو مطلوب؟ كما أن في سؤال لماذا تبدأ كل مرة من الصفر؟  دعابة الشارع السوري الذي سئم تلك الوجوه المبتسمة دائماً – أي الوزراء – فيما قراراتهم الصادرة، وإجراءاتهم المتخذة تبكي الناس.

من هو العقل الاقتصادي للحكومة؟ أو الدينامو الذي يحرك هؤلاء الوزراء، أو المستشرف للقادم من الأيام؟ لا يستطيع رئيس الحكومة أن يكون هذا الشخص، نظراً إلى المهام الكبيرة الملقاة على عاتقه، والصلاحيات الواسعة الممنوحة له. وربما ليس مطلوباً في بلادنا أن يكون رئيس الحكومة اقتصادياً، بالمعنى الكامل للمصطلح، وآخر خمس رؤساء لمجلس الوزراء (محمد مصطفى ميرو، محمد ناجي عطري، عادل سفر، رياض حجاب، وائل الحلقي) وغيرهم أيضاً، ليسوا اقتصاديين. لكن ساهم وجود شخصيات مشهود لها بالكفاءة والخبرة مثل الراحل عصام الزعيم، ومحمد الأطرش، وفيما بعد شخصيات لديها من المرونة ما يكفي لتنفيذ الخطط والمحافظة على علاقة وطيدة مع السلطة الفوقية والشارع، مثل عبدالله الدردري ومحمد الحسين وعامر لطفي، ولاحقاً قدري جميل، ساهم ذلك في جعل الملف الاقتصادي حاضراً بقوة، وله سمة الأولية على ملفات كثيرة. ورغم ما أثارته هذه الشخصيات من رضا أو عدم قبول من الشارع، إلا أن حضورها مع الاستعانة بالمستشارين الاقتصاديين المتخصصين، أدى أيضاً إلى وضع تصورات مهمة للمراحل القادمة آنذاك، ومنها مشروع استشراف سورية ،2025 لصاحبه الزعيم. والقضية الأساسية، أن الملف الاقتصادي كان يدار بعقلية شبه اقتصادية، نظراً لتداخل السياسي والاجتماعي معه، اتفاقية التجارة الحرة السورية التركية أنموذجاً. وسعى مخططو الاقتصاد السوري خلال السنوات العشر الممتدة من 2000 إلى 2010 لتأسيس اقتصاد أكثر انفتاحاً وتنافسية، رغم وجود مدرستين الأولى متمسكة بدور القطاع العام المحوري في الحياة الاقتصادية، والثانية تسعى جاهدة لفسح المجال أمام القطاع الخاص، ومنحه الحصة الأعلى في الحقل الاقتصادي. أي كان هناك آراء يدافع عنها مسؤولون، وخطط تنفذ، ومشاريع تنتظر التنفيذ، بينما نتساءل: ماذا يحدث الآن؟

منذ تشكيل حكومة الحلقي الأولى ونحن نناقش ماهية هذه الحكومة، وأهدرنا الوقت في توصيفها، وتحديد مهامها، فهي التي تطلق على نفسها حكومة الحرب، ولا نرى أنها قامت بأي من مهام حكومات الحرب. إنها حكومة الاجتماعات، والتوجيهات، فهي كثيرة التصريحات قليلة الأفعال، وتفاجئ الناس بما لا يرغبون، وتعاند البوصلة الحقيقية، ولا ترى ما يجري في الواقع من كوارث اقتصادية واجتماعية، وغرقت في عدد بسيط من المشكلات، وكادت أن تختنق عند أول تحدٍّ جدي واجهها وهو قلة إيرادات خزانة الدولة. وكل ما فعلته هذه الحكومة ينطبق على سمات حكومات فترات الرفاهية الاقتصادية، قانون التشاركية أنموذجاً، وتحريك سعر الخبز والمحروقات والكهرباء من منجزاتها، والتشدد في المجال الإداري، وعدم معالجة الفساد… الخ، جل عملها. بل إنها تعيد النتاج الفاشل للحكومات السابقة في مجالات معينة، ومنها التخلي عن المنتجين الحقيقيين (الفلاحين، الصناعيين، الحرفيين)، والانحياز إلى قلة من المحتكرين والمستحوذين على ما تبقى من الاقتصاد المحلي.

هذا الواقع هو النتيجة الحتمية، لغياب العقل الاقتصادي للحكومة، الذي يعد الضامن الفعلي لصوابية قراراتها. اذ لا يمكن من بين الوزراء الذين ينوف عددهم على الثلاثين، ألا يكون من بينهم شخصية اقتصادية فذة، صاحبة فكر اقتصادي، وموقف تدافع عنه، وقادرة على وضع خطط تناسب أوضاع البلاد الجريحة. ولا نقصد بذلك أننا نريد من يقوم بمشروع (مارشال) سوري، فمن المبكر الحديث عن هذا الوضع، بل نريد من يتمكن من قراءة الواقع المرير، ويشاهد الفقر والعوز، ويلمس معاناة الناس، ويستشرف احتياجات المرحلة القادمة ولو في المدى المنظور. لم نر أن رئيس اللجنة الاقتصادية وزير المال إسماعيل إسماعيل قام بهذا الدور الحيوي، ولم يتقدم وزير الاقتصاد همام الجزائري قيد أنملة من هذه القضايا، أو من المقاربة التنموية اليتيمة التي اقترحها مطلع 2014عندما كان يتبوأ منصب رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي. وكذا هو الأمر بالنسبة لبقية المسؤولين القادمين من كليات الاقتصاد السورية، والذين يعملون بصفة مديرين عامين أو معاوني وزراء أو رؤساء هيئات مستقلة.. الخ. وربما في العلاقة غير الإيجابية التي جمعت رئيسي مجلسي الوزراء مع النائبين الاقتصاديين الأخيرين، الدردري، وجميل، دفع إلى المطالبة بتجاهل هذا المنصب في حكومة الحلقي. غياب العقل الاقتصادي للحكومة، ونقصد النائب الاقتصادي، أو رئيس هيئة التخطيط الفعّال، ساهم في خلق مشكلات جديدة، فضلاً عن القائمة، وترك مقعد الاقتصاد خالياً على طاولة الحكومة، التي أرهقت المواطنين كثيراً، وجعلتهم بلا مستقبل. إنه الاقتصاد، الذي دونه لا يمكن بناء دولة، أو تحقيق تنمية، ولا يوجد سبب واحد مقنع لإهماله، وتركه شاغراً بلا مخططين.

العدد 1136 - 18/12/2024