كي لا ننسى… الإخوة فلاحة.. إخلاص دون حدود لقضية الطبقة العاملة السورية

حلب، العاصمة الثانية لسورية، والمدينة التي تضرب جذورها عميقاً في التاريخ، حلب مدينة الحضارة والثقافة والفكر، التي أنجبت الكثير من رجالات الفكر والسياسة والاجتماع، وانطلقت منها أولى إرهاصات الفكر النهضوي على أيدي المنورين الأوائل وأبرزهم عبد الرحمن الكواكبي، حلب مدينة المتنبي وأبي فراس الحمداني، مدينة التراث العربي، وقلعتها الراسخة والشامخة، حلب المدينة التي قاومت بصلابة وعناد ظلام العثمانيين الدامس الذي خيم على بلاد الشام أكثر من أربعمئة عام، حلب مدينة الفن والغناء والتراث الثقافي، حلب المدينة الصناعية والعمالية، التي نشأت فيها أولى الحلقات الاشتراكية، والتي تغلغلت واسعاً في صفوف كادحي المدينة ومثقفيها، وكانت امتداداً للفكر النهضوي الذي بدأ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

حلب المعذبة، التي تتعرض الآن للانتقام من أكثر القوى الظلامية الحاقدة عليها بسبب دورها التنويري والإبداعي عبر العصور، حلب المدينة التي تفتح قلبها للمستقبل الأكيد الذي سيشرق علينا بفضل أبنائها البواسل، في هذه المدينة التي تنبض بالحياة، ولد الإخوة فلاحة، صالح ويونس وأحمد، في حيّ الكلاسة الشعبي، المعروف بوطنيته، من عائلة كادحة، تحصل على قوت يومها من عرق الجبين، لم تكن ظروف الأسرة وأوضاعها المادية تسمح للإخوة الثلاثة بالذهاب إلى المدارس، وتلقّي المعارف العلمية، وكانوا مضطرين للانخراط في العمل منذ نعومة أظفارهم، والدخول إلى مدرسة الحياة العملية، وهناك عرفوا معنى الاستغلال ومعنى الظلم الاجتماعي الذي ترك بصماته الواضحة على وعيهم الاجتماعي…

في تلك الأوقات البعيدة، وفي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كانت الحركة النقابية في البلاد، وعلى الأخص في حلب، ناشطة بصورة كبيرة، وكان للشيوعيين تأثير هام في عدد لا يستهان به من النقابات، وعلى الأخص في نقابات النسيج والبناء والطباعة وغيرها، وكان لابد أن يتأثر الإخوة فلاحة تدريجياً بهذه البيئة، ووجدوا أنفسهم أعضاء في الحزب الشيوعي السوري.

لقد أقبلوا بحماس على تأدية واجبهم تجاه المهمات التي كانت توكل إليهم، وخاضوا مع الحزب جميع النضالات الاجتماعية، وأصبحوا جميعاً أعضاء بارزين في نقاباتهم، كما أنهم خاضوا دون تردد جميع نضالات الحزب ضد دكتاتوريات حسني الزعيم والشيشكلي وتعرضوا للملاحقات، وفي أعوام 1954-1958 ناضلوا إلى جانب الحزب من أجل تعزيز نفوذ الحزب في أوساط الطبقة العاملة، وقدموا نماذج يقتدى بها في الدفاع عن المصالح الجذرية للطبقة العاملة، ولم يقتصر نضالهم على الجوانب المطلبية الطبقية، وإنما تناول أيضاً المسائل الوطنية، والدفاع عن استقلال البلاد ضد المؤامرات التي كانت تحيكها القوى الرجعية الظلامية أو القوى التي لا ترغب في أن يتعزز المنهج التحرري والديمقراطي في البلاد.

لقد خاضوا مع الحزب النضال ضد حلف بغداد والنقطة الرابعة، ولعبت الحركة الجماهيرية آنذاك دوراً في إحباطها كلها، وتأتي الوحدة على استعجال ولا يُسمع الصوت الحكيم للحزب الشيوعي السوري، الذي طرح بنوده الثلاثة عشر، ويقابل موقف الحزب هذا بحملة اعتقالات واسعة وظالمة طالت آلاف الشيوعيين والديمقراطيين، ويعتقَل الأخَوان صالح ويونس فلاحة، أما أحمد، فينجو من الاعتقال ويستمر في نضاله من خارج السجن، يتعرض الشيوعيان صالح ويونس للتعذيب في السجن، وللاضطهاد والإرهاب، ويطلب منهما البراءة من الحزب الشوعي، بيد أنهما رفضا ذلك دون تردد، واعتبرا أن إعلانهما البراءة هو مسّ بشرفهما العمالي، وبقيا ثابتين على موقفهما طوال الوقت، وحتى انهيار الوحدة الذي كان متوقعاً. يخرج الشيوعيان صالح ويونس من السجن، ويعودان إلى صفوف الحزب الأول في مدينة حلب مع شقيقهما أحمد بالحماس نفسه والاستعداد للتضحية.

وبالرغم من التغيير الذي طرأ على وضع الطبقة العاملة أثناء الانفصال، بسبب الموقف الذي اتخذته حكومة الانفصال الأولى من مكاسب الطبقة العاملة إذ ألغت قرارات التأميم التي صدرت أثناء الوحدة، إلا أن الإخوة فلاحة عملوا كل ما يستطيعون من أجل إعادة الثقة بين الحزب والطبقة العاملة، عبر دفاعهم عن استقلالية قرار الحزب، ووقوفهم ضد جميع التدابير المناهضة لمصالح الطبقة العاملة..

كان من الواضح أن حركة التحرر الوطني العربية تنتقل إلى مرحلة أخرى أكثر تعقيداً، وخصوصاً بعد انهيار الوحدة، وبعد نكسة حزيران التي حدثت بسبب الأخطاء الحادة التي ارتكبتها السلطات القائمة آنذاك في سورية ومصر، وخصوصاً عدم اعتمادها على الجماهير الشعبية، وأخذت تعيش أزمة عميقة كان لها تأثيراتها أيضاً على الحزب الشيوعي السوري، وأخذ الحزب يعيش صراعاً، أدى بنتيجة المطاف إلى بعثرة قواه، وتسرب كثيرون من صفوفه، وقد عزّ ذلك على الشيوعيين الإخوة وساءهم معاداة رفاقهم في الأمس، وأخذوا يبتعدون عن التنظيم تدريجياً، إلا أنهم ظلوا حتى النهاية مخلصين للقضية العمالية، ولقضية العدالة الاجتماعية، ودخل تراثهم النضالي في التراث الكفاحي المجيد للطبقة العالمة السورية.

العدد 1136 - 18/12/2024