يقايضون أحلامهم..بخبزهم!
يعيشون مأساتهم بصمت، يتجرعون العلقم برضاً، يتنفسون فقرهم وعوزهم مع رائحة البارود واحتراق الأجساد في لهيب الحرب، يسمعون صوت خواء مِعَد أطفالهم بقلوبهم المفتّتة قهراً على زمن لا تلوح له نهاية، يأكلون الفقر وليس الفقر آكلهم، يشربون الحمم وليست الحمم تكويهم، يفترشون الجمر ولهيب أجسادهم وقلوبهم تطفئ الجمر وتخمد النار، يلبسون الهموم وليست هي التي تغلفهم وتتّخذ لها بيتاً من أجسادهم ،كما المألوف، يقبرون أحباءهم في شغاف قلوبهم وليس في تربة الأرض التي حفلت بالجثث..
إنهم السوريون مظلومي السماء والأرض والحياة والموت والعدالة والقصاص.. يقول شكسبير: إن أصعب معركة في حياتك هي عندما تدفعك ظروفك لكي تكون شخصاً آخر. فما بالك بهذه الظروف إن كانت تدفع الإنسان السوري ليعيد خلقه من جديد بما يتناسب مع وضع خُطّط له أن يحيا في لهيبه؟! وكيف لمحكوم بالجحيم أن يعيش في دار الخلود؟ وكيف يجرؤ على التفكير بالفردوس؟؟ فأن تحلم في هذه الحرب فهذا بحدّ ذاته كفاح.
أرخت الحرب بأعوامها الستة على فقراء سورية المزيد المزيد من الفقر، لدرجة تصنيفه بالمدقع والمؤلم، ارتفعت الأسعار عشرات الأضعاف إن لم يكن أكثر.. أصبحت اللقمة بعيدة المنال غالية المهر، وإن توفرت فهي بأدنى المواصفات وبأدنى القيم الغذائية حسب منظمات الصحة العالمية، والسؤال هنا: كيف يتدبرون أمورهم؟ وكيف يعيشون بأدنى مستوى بل لنقل بأعمق درجات الفقر حضيضاً؟ كيف يحتالون على أيامهم السوداء وقروشهم السوداء وأطماع التجار السوداء ذوي الأيادي السوداء؟
تقول لمى ع.(وهي مهجرة من مخيم اليرموك وتسكن في اللاذقية):ذهبت كل أحلامنا وذهب معها بيتي وأثاثي وحتى ألعاب أطفالي المحببة، والآن نعيش على راتب يكاد لا يسد الرمق، فزوجي موظف عادي وأنا أبحث في كل دوائر الدولة عسى أن أحقق ولو عقداً لمدة ثلاثة شهور، لأشتري لأطفالي أحلامهم بالحلوى أو اللحوم التي بتنا نسمع بها من أفواه الأغنياء أو نشاهدها على موائد الناس في المسلسلات..
أما الموظف مجد م. فيقول: أعمل على بسطة بعد الانتهاء من وظيفتي وما أتقاضاه من الوظيفة ومن عملي على البسطة لا يفي بمستلزمات أسرتي التي بات همي الأول سدّ رمقها وتلبية أدنى احتياجاتها..
المواطن محمد د.( وهو مهجر من ريف إدلب ويسكن في أحد مساكن الإيواء في اللاذقية) فقد قال إنه وجد نفسه وأسرته أمام واقع مادي مرير اضطره أن يستنفر هو وأولاده للعمل على بسطات الخضار في الأسواق الشعبية، ولدى سؤاله كيف يوفق أولاده بين دراستهم وعملهم؟ أجاب بمرارة :لقد تركوا مدارسهم وأحلامهم بأن يكون لهم شأن.. لقد بدّلوا خبزهم بحلمهم..
أما أم نضال (وهي زوجة مخطوف لا تعرف له قراراً) فقد قالت: خُطف زوجي منذ ثلاث سنين ومنذ ذلك اليوم إلى الآن وأنا أعيش وأولادي الثلاثة على مساعدات الجيران والأقارب وذوي الأيادي البيضاء، ولأن الحالة المادية للناس باتت كلها سيئة فقد تراجعت العطايا لأجد نفسي أبيع مقتنيات بيتي التي أقدر أن أستغني عنها كي أسد رمق أطفالي.. وختمت حديثها بأن خوفها من الغد هو أعظم همومها وخاصة فيما يخص الوضع الاقتصادي للبلد..
ولم يكن حال الموظف فارس م. أفضل من سابقيه، فقد أرهقته الديون والفواتير التي لا تعرف التأجيل، إلى حد أن ينسى الإنسان أنه إنسان له حقوق وله كرامة، كما قال، وأكد أن حالة الفقر العامة بين الشعب تدمي القلب لدرجة ينسى الإنسان معها أنه حي ويعتبر أن كل يوم يمر هو امتداد لقرب الأجل، فالقلب والنفس ضاقا إلى حد الانفجار..
هكذا كان الحديث مع الفقراء الشرفاء.. أما من انحرف عن السجية الطيبة والأخلاق الرفيعة فأدار ظهره للحلال وسلك الحرام في حياته من أجل تحصيل المال، فهؤلاء لن يفصحوا عن هويتهم أمام أحد ويترك للمرء أن يستنبط من أين له ولها هذا؟؟ فاللص الذي يسرق في وضح النهار من ممتلكات الدولة.. وقاطع الطريق الذي يسلب الناس سياراتهم ويخطفهم ويطالب بالفدية.. وألد أعداء البشرية من يتاجر بالشجر فيحرقه من أجل الفحم ومن أجل بيع الحطب الذي يتدفأ به الناس شتاءً.. والفتاة أو المرأة التي تبيع جسدها على قارعة الطرقات وعلناً وتحت ضوء الشمس.. كل أولئك هم من مخلفات الحروب ومن نتائج الغلاء، فكلٌّ يعيش همّه على قدر ما تسمح له ظروفه فمنهم من يختار الطريق الصحيح ومنهم من يطيب له التمتع بالملذات ولكن بطرق غير مشروعة..
وفي النهاية.. ونحن نترقب تشكيل الحكومة العتيدة، نقولها بالفم الملآن:
استمرار صمود السوريين وراء جيشهم الوطني مرهون بسياسات اقتصادية واجتماعية تلبي متطلبات هذا الصمود ،فالجائع يا حكومتنا القادمة إن غنّيتم له فسيسمعكم عندئذ بمعدته..