هل بلغنا المفترق المصيري؟
الإنذار السافر الذي وجهته الرباعية العربية بقيادة السعودية للرئيس الفلسطيني محمود عباس هو مؤشر لا يحتمل التأويل بأن النظام العربي عازم على التخلص من القضية الفلسطينية وتجاوزها، بثمن وبلا ثمن، لصالح التحالف الرسمي والعلني مع اسرائيل، في خدمة أجندات مشتركة في المنطقة. وبالفعل شهدت الأشهر الماضية،على وجه الخصوص، تسارع المؤشرات التمهيدية على التوجه نحو هذا التحالف. فهذا النظام العربي الذي تتصدره السعودية يتابع، اليوم، بقلق بالغ تطور الأحداث المتسارعة في المنطقة، هذا التطور الذي يرسل الإنذارات المتصاعدة لهذا النظام، ليس فقط بالفشل المريع لسياساته في المنطقة، وإنما لارتدادات هذا الفشل على أنظمة هذا النظام العربي الرجعي ذاتها.
ويأتي اندفاع هذا النظام العربي نحو التحالف العلني مع إسرائيل، على حساب القضية الفلسطينية، في ضوء الخسائر المتلاحقة التي راح يمنى بها هذا التحالف بقيادة السعودية على نطاق المنطقة، وبعد أن فقد الأمل في توريط الولايات المتحدة في مواجهة عسكرية مع أطراف محور المقاومة في المنطقة: سورية وايران والمقاومة اللبنانية. وغني عن القول أن امتناع واشنطن عن ذلك ليس تعففاً، وإنما لحسابات الربح والخسارة، بعد تجربتها المريرة في غزو كل من أفغانستان والعراق. وبالتالي، لم يبق أمام هذا النظام العربي من قوة ذات وزن في المنطقة، وفي الوقت ذاته تلتقي معه في الموقف العدائي لمحور المقاومة إلا إسرائيل.
لكن إسرائيل من جانبها، ترى في هذا الاندلاق على التحالف معها فرصتها الذهبية لتصفية القضية الفلسطينية بأيد عربية!، علماً بأنه من المشكوك فيه كثيراً أن تغامر الأخيرة بالدخول في حرب مع محور المقاومة دون ضوء أخضر من واشنطن. ببساطة، لأن ماكنة الحرب الإسرائيلية مرتبطة بالإرادة الأمريكية، بمعنى أن عتادها وذخيرتها الأساسية، بما في ذلك لطائراتها الحربية، الأمريكية الصنع، تعطيه واشنطن لإسرائيل بكميات ومعايير محددة، بحيث يبقى بيد واشنطن تقرير شنّ إسرائيل للحروب ومداها؛ وتجارب حربي 1973 و2006 على لبنان برهان على ذلك. فدون الجسر الجوي الأمريكي من الإمدادات ما كانت إسرائيل بقادرة على مواصلة تلك الحروب.
أما الرئيس محمود عباس، فهو في وضع لا يحسد عليه. فمنذ اندلاع الصراع في المنطقة عام 2011، وفرزها إلى معسكرين متصارعين، خضع للضغوط واصطف مع محور الرجعية العربية بقيادة السعودية، المتحالف مع القوى المعادية للقضية الفلسطينية، من الولايات المتحدة وحتى إسرائيل، بدل اصطفافه المنطقي مع القوى التي تدعم وتناصر قضية شعبنا الفلسطيني، بل ولا حتى التزم موقف الحياد، انسجاماً مع التقليد الذي أرسته منظمة التحرير في وقت مبكر، بالابتعاد عن المحاور في المنطقة، لاستقطاب أوسع دائرة من المؤيدين لقضية شعبنا العادلة. ولكن في اللحظة التي اصطف فيها وراء السعودية،ارتهن قراره السياسي لديها، وتعبيراً عن ذلك راح يردد، بمناسبة ودون مناسبة، أنه مع السعودية! فهل إنذار الرباعية الذي تقوده السعودية الموجه اليه مباشرة هو جزاء سنمار؟!
وإذا كان عرفات (رغم أخطائه الفادحة وبخاصة تسرعه في بناء جهاز دولة قبل أن يتحرر شبر من الأرض الفلسطينية وقبل تأمين مصادر تمويل مستقلة لهذا الجهاز، ما أدى إلى ارتهان القرار الفلسطيني لإرادة الجهات المانحة، وفي عدادها السعودية)، يمثل – أي عرفات- مرحلة المقاومة، فإن محمود عباس يمثل مرحلة الشلل وتجميد النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، رهاناً على مفاوضات عبثية. أما اليوم، فيبدو، من وجهة نظر الرباعية العربية، أن مرحلة تصفية القضية الفلسطينية لصالح المحتل الإسرائيلي أزفت، وهذه المرحلة لها رجالها.
في هذا السياق، فإن محاولات الرئيس عباس للتمرد على إرادة الرباعية العربية وإنذارها له الذي لا يحتمل التأويل، هي محاولة بائسة وبلا رصيد إلى حد بعيد. بعد أن أحرق معظم الجسور التي تربطه بشعبه، ضمانته الأولى والأخيرة، إلى حدّ ساد فيه الشعور لدى هذا الشعب بأنه يرزح تحت نير مزدوج: الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، كما أنه – أي الرئيس عباس – شلّ قدرات هذا الشعب على مقاومة الاحتلال، بل وحوّل جهاز الأمن الفلسطيني إلى حارس للاحتلال! بخاصة منذ لحظة اصطفافه في محور الرجعية العربية في المنطقة بقيادة السعودية.
إن وضع الرئيس عباس هذا، يعيد إلى الذاكرة وضع الحاج أمين الحسيني، الذي سلك نفس الطريق تقريباً، وسلّم قضية شعبه، في أدق المراحل وأخطرها، إلى الجامعة العربية نفسها والنظام العربي الذي كان مرتبطاً بعجلة المعسكر الإمبريالي المتآمر مع الصهيونية على القضية العادلة لشعبنا الفلسطيني. وحين دخلت جيوش هذا النظام العربي بدءاً من 15/5/1948، أرض فلسطين بدعوى تحريرها، كان أول إجراء لهذه الجيوش، هو منع الفلسطينيين من ممارسة أي نشاط عسكري أو سياسي، بدعوى أن مثل هذا النشاط يعرقل مهمتها في تحرير فلسطين ! لكن المفارقة، هذه المرة، أن مهمة شل قدرة الشعب الفلسطيني على المقاومة تولتها القيادة الفلسطينية ذاتها. ومعلوم أن الحاج أمين الحسيني كتب نهايته المحزنة بيديه، لحظة تخليه عن دوره في قيادة شعبه، في أدق وأخطر لحظات تاريخه لصالح النظام العربي الرجعي، الذي (كافأه) بعد ذلك بالتهميش والإهمال. ومحنة الرئيس عباس أنه لم يحاول التمرد على إرادة النظام الرجعي العربي حين بدا استعداد حكام السعودية للتفريط بالقضية الفلسطينية، لصالح تأمين تحالفهم مع إسرائيل، ومن أجل ضرب حلفاء الشعب الفلسطيني الحقيقيين، وإنما حين جاهرت السعودية وأتباعها بالعزم على التخلّي عنه شخصيا والعمل على استبداله.
وعلى أي حال، إذا ما بقي أمام الرئيس عباس أية فرصة للإفلات من المصير الذي رسمه له حكام السعودية وأتباعهم، فإن هذا يتطلب انقلاباً كاملاً وفورياً في المسار الخطر الذي سار عليه حتى الآن، وفي مقدمة ذلك:
أولاً – العمل الجاد لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية وإنهاء الانقسام المدمر؛ ثانياً- التخلي عن الالتزامات المنبثقة عن اتفاقات أوسلو وفي مقدمتها التنسيق الأمني، مادام الطرف الإسرائيلي لا يلتزم بأي منها؛ جنباً إلى جنب مع فتح المعركة ضد الاحتلال على مختلف الجبهات، وفي المقدمة الحراك الشعبي، إذ من السذاجة المفرطة توقع ارتفاع منسوب التضامن مع قضية شعبنا ونحن ساكنون تحت الاحتلال، وكذلك تحريك مختلف الملفات المجمدة ضد الاحتلال في المحافل الدولية، والتخلي عن أعمال التخريب والإجهاض لنشاطات مقاطعة إسرائيل، ودعم هذه العملية الواعدة بكل الإمكانات؛ وثالثاً – تفعيل مختلف مؤسسات منظمة التحرير وتصحيح العلاقة المعكوسة بينها وبين السلطة الفلسطينية، والتحوّل من العمل والقيادة الفردية إلى الجماعية، لوضع حد للقناعة بأن انتزاع الرئيس محمود عباس أو تغييره يغيّر المسار الوطني برمته، رابعاً – فك الارتباط بالمعسكر الرجعي الذي تقوده السعودية، وبالمقابل التحول للتنسيق والتكامل مع محور حلفاء وأصدقاء شعبنا الحقيقيين. وحينئذٍ، سيجد الرئيس عباس الشعب الفلسطيني بكامله يتصدى لدعمه ومساندته. فهل من أمل في الإصلاح والتغيير، قبل فوات الأوان؟