ذئاب التكنولوجيا تلتهم حكايا الجدة
كما الذئب في حكاية (ليلى والذئب) الذي تسلّل على غفلة فالتهم الجدة وتبعها بليلى، كذلك هي ثورة العلم والإعصار الجائح المتمثل بخلاصة عقل الإنسان المبدع الخلاق المبتكر لوسائل الاتصال، ملحوقاً بالثورة الرقمية وما حملته لنا في طياتها من اختراعات تسحر الألباب وتوجه أنظار الكبار قبل الصغار إليها، تلك الثورة البراقة والتكنولوجيا الحديثة هي كالذئب الذي تسلل إلى حياتنا وأذهلنا بقدرته على التمويه وتقليد حياتنا أثواباً براقة تشبه بريق السندس والذهب، فذهلت الأبصار وانحسرت العقول وركبنا الموجة المتلألئة لتأخذنا حول الأرض، فتكشف لنا أسرار العالم وخباياه وتفتح الأبواب للاطلاع على حياة الشعوب الأخرى..
التكنولوجيا الحديثة وما لحق بها من افتتاح آلاف المحطات الفضائية التي تزخر بها الشاشة، لكأن المرء على موعد مع العالم بأسره لدى فتحه للتلفاز.. فأمامه الخيارات الكثيرة لقنوات مختصة بالأفلام العربية منها والأجنبية، وقنوات الأطفال المتعددة، وقنوات الأفلام الوثائقية العلمية، إضافة إلى قنوات الغناء والموسيقا والطبخ .. كل هذا متاح للرائي وبالمجان..
أما عما تفتق به عقل الإنسان من اختراع عظيم لوسائل الاتصال الاجتماعي, وربط لأقاصي الشرق بأذيال الغرب، وانفتاح العالم على بعضه لكأن هذا العالم بات قرية صغيرة، كل ساكنيها يعرفون بعضهم ويتداولون أخبار بعضهم فهنا تكمن عبقرية الإنسان وبحثه الدؤوب عن كل ما يقرب الناس وثقافاتهم من بعضها..
ولكنهم أعطوا الإنسان الجديد التقدم وفي الوقت نفسه أخذوا منه نفسه، ناولوه العالم وأخباره وسلبوا منه الهناءة والحميمية، عبدوا الطريق أمامه للتواصل الإلكتروني وسرقوا منه التواصل القلبي والروحي معا.. أغروه بالصباحات الباريسية والعطور الاصطناعية والتهموا أشجار السرو والسنديان والياسمين التي كان يجلس متكئاً عليهم في المساءات الدافئة يستمتع مع أقاربه وجيرانه بجلسات السمر الصيفية.. أطفؤوا موقدة الشتاء ورائحة الكستناء واغتالوا أحاديث الجدة وحكاياها على وقع الفيس بوك والتويتر والوتس أب.. ذئاب التكنولوجيا لم تلتهم الجدة وحكاياها فحسب، بل حولت النفوس إلى ذئاب لم تعد تبالي لا بالجدة ولا بحكاياها ولا بالأم ولا الأب ولا بكل القيم التي تربى عليها الإنسان السوري الذي تشبع في الماضي من حكايا جدته، فعاش طفولة سليمة متوازنة بخيال خصب وعلاقات مستقرة..
تقول إحدى الجدات التي تعصف بها رياح الغربة مع أحفادها: كبرت على أمل أن أحضن أحفادي في الشتاءات الباردة وأحكي لهم قصة الخراف السبعة وليلى والذئب وبائعة الكبريت,ولكنني خذلت وخذلني هذا الزمن الذي أتحفنا بالموبايلات وهوس الأطفال بالألعاب الإلكترونية، ولكأن أحفادي وهم يلعبون على أجهزتهم خارج الزمان وخارج المكان في عالم أراده لهم من اخترع ذلك الهوس المستفحل في عقول الأطفال…
أما الأم ليلى وهي معلمة وأم لثلاثة أطفال فتقول: اختلفت الحياة وانقلبت المفاهيم على حضور الثورة في عالم الاتصال والتكنولوجيا الحديثة التي فرضت نفسها ودخلت بيوتنا عنوة وأصبحت جزءاً منها.. وتستدرك ليلى فتقول كانت أمي كل يوم بعد الانتهاء من دروسنا تجمعنا أنا وإخوتي في أسرتنا فتحكي لنا حكاية قبل النوم، والتي مازلت أذكرها وتدمع عيني لدى استذكار أصابع أمي وهي تلعب بخصلات شعري، فتـأخذني إلى عالم النوم على وقع حكايتها عن الأميرات والقصور والورود والنبلاء.. اليوم أولادي لا يكادون ينتهون من واجباتهم المدرسية حتى يهرعوا إلى شاشة التلفاز ثم الختام مع بعض الألعاب الالكترونية… تقول ليلى: لقد عشت متوازنة وسليمة الخيال والعاطفة تأثراً بحكايا أمي، وقبلها جدّتي، فالرثاء لجيل هذه الأيام الذي لم يكن له نصيب من هناءتنا..
الدكتور حاتم الصالح وهو طبيب نفسي وضح لنا حالة هذا الجيل الذي أدمن التكنلوجيا كإدمانه للحلوى وقطع الشوكولا.. فتلك الألعاب الملونة الإلكترونية التي تأخذ الطفل من حياته ومن أهله هي الشيء الجميل والشيء الذي لا يقدر على تركه، بل قد تسبب له تلك الألعاب نوعاً من الهوس المرضي المسمى في علم النفس الحديث (هوس الحالة) التي ما إن يظهر اختراع الأحدث حتى ينقلب الطفل على حالته مطالباً بالأحدث فالأحدث. وشدد الدكتور حاتم على ضرورة حضور الأهل المكثف في حياة أطفالهم والعودة بهم إلى الأحضان الدافئة فتلك الألعاب تجمد العقول والأحاسيس على حد سواء..
لن يغني أحد في هذه الأيام كما غنت فيروز في الماضي وهي تحكي عن جدتها التي تحبها وتنتظرها لتحكي لها حكايات الجن الحلوة والزبيب والجوز الذي تخبئه لحفيدتها، وركوة القهوة بعدها من الحفيدة المحبة لجدتها…
الجدة والأحفاد والحكايات الجميلة والدافئة أمام الموقد.. كل ذاك جرى اغتياله كما اغتالوا الفرح والياسمين والحنان والعلاقات القديمة قدم أشجار السنديان.. ولكأن الأصوات تعلو من النفوس المرهقة فتقول: خذوا تكنولوجيتكم وأعيدوا لنا أنفسنا…