معركة توحيد حلب

في عام 2012 كانت القرى والبلدات والأحياء السورية تتساقط واحدة تلوى الأخرى بيد الجماعات الإسلامية المسلحة, كادت مدينة حمص أن تخرج إمارة مستقلة، صارت حلب القديمة مركزاً عميقاً للفاشية الإسلامية، في حين ضاقت العاصمة بغوطتيها الشرقية والغربية. كان المشهد شديد السواد بالنسبة للمجتمع السوري, وكان خصوم دمشق في باريس والرياض وقطر واسطنبول يتفاوضون فيما بينهم لإعادة نمذجة الكيان السوري المُفترض.

اليوم انقلبت معادلة الصراع بالمطلق. اكتسح الجيش السوريّ حلب (الشرقية) التي طالما كان يؤمل منها أن تتمتع بحكم ذاتي, ووصل إلى تخوم حي الشيخ سعيد في قلب الأحياء القديمة في شرق حلب, بعد أن سيطر على أحياء واسعة ومهمة منها السكن الشبابي (1 كانون الثاني 2016) أحياء الحلوانية, حي الجزماتي ودوار الجزماتي الاستراتيجي (4 كانون الثاني 2016). وحرر مشفى طب العيون الذي كانت قد حولته (جبهة النصرة) إلى سجن مركزي.

في 15 كانون الثاني كان اليوم الوطني المنشود؛ وافقت قيادات الجماعات الاسلامية المسلحة تسليم ما تبقى من شرق حلب والخروج منها باتفاق. منذ هذه اللحظة يقول الباحث في مؤسسة (سنتشري فاونديشن) للأبحاث سام هيلر إن هزيمة الفصائل المقاتلة في حلب (تعني نهاية المعارضة السورية كقوة يمكنها ان تتحدى نظام الأسد –على حد تعبيره- بشكل قوي او تسيطر على البلاد), وعلى الاغلب فإن هزيمة المعارضة الإسلامية في حلب، وتكثفهم ضمن مساحات جغرافية محدودة، سيضع المعارضة السياسية الداعمة لها في الرياض وباريس ضمن خيارات ضيقة.

يمكن أن نعزو هذا التقدم الكاسح للجيش السوري إلى مجموعة من العوامل اهمها:

– داتا الاستخبارات الدقيقة التي حصلت عليها استخبارات الجيش السوري عن أماكن تخزين الأسلحة والمقرات اللوجستية للمسلحين من مصدرين رئيسيين هما: الأهالي الذين خرجوا من الأحياء المحررة والناقمين على ممارسات عناصر هذه المجموعات, خاصة في الفترة الأخيرة بعد احتكارهم توزيع المواد الغذائية. أيضاً من عدد لابأس به من المسلحين الذين استسلموا أو هربوا مع الأهالي, أو أصيبوا ويتلقون العلاج في المشافي الميدانية الحكومية.

– الحالة النفسية التي لعبت دوراً هاماً في المعركة, إذ أدى التقدم الكبير للجيش السوري خلال فترة قصيرة جداً, إلى انهيار معنويات العناصر الإسلامية المسلحة, والحاضنة الشعبية لها الناقمة أصلاً.

– بالتزامن أو يسبق أي هجوم على حي محدد, يتم فتح مناوشات عسكرية على قوس واسع من جبهة شرق حلب, بحيث لا يمكن تقدير أي نقطة يمكن الاختراق عليها من قبل الجيش السوري. من ناحية أخرى, الخطة العسكرية التي يتبعها الجيش السوري في إدارة المعركة تتمثل بعمليات الالتفاف شبه الكامل, حيث يدفع بقوات اقتحام برية من النخبة ومُدربة بشكل كافي لإشغال جميع الجهات, باستثناء مَنفَذ واحد يتم السماح من خلاله بانسحاب المسلحين, مثلاً في حي الشعار, اذ ورغم ان المسافة الفاصلة بين القوات الجيش السوري في كل من حي الشعار من جهة وقلعة حلب من الجهة المقابلة والتي يسيطر عليها الجيش السوري ايضاً لاتتجاوز 500 متر, إلا أن الجيش لم يغلقها ليسمح بانسحاب عناصر المجموعات المسلحة من حي الشعار المحاصر باتجاه حي بستان القصر.

– رغم الحصار المطبق للجيش السوري, أدت النزاعات المسلحة بين المجموعات الإسلامية المسلحة خاصة بين (حركة نور الدين الزنكي) و(استقم كما أمرت), وأيضاً بين (جبهة النصرة) و(فتح الشام) إلى مزيد من التدهور في إمكانية حفاظها على شرق حلب. ورافق هذه النزاعات عمليات اغتيال وسرقة ونهب لمخازن الأسلحة والمواد الغذائية.

– التحولات السياسية الدولية والإقليمية التي كانت مؤيدة للمعارضة الإسلامية المسلحة وتخلت عنها حالياً, والتي لا يمكن أن نصفها إلا بأنها تركت مصيرهم بيد تداعيات التقدم الدراماتيكي للجيش السوري.

– فتح الجيشين السوري والروسي المجال لتفاوض من سينهزم من معركة حلب بالخروج آمناً إلى محافظة إدلب, حيث يعطي هذا الخيار شعوراً قوياً عند المسلحين بأفضلية النجاة وتسليم حلب على القتال في معركة لا طائل منها.

معركة توحيد حلب ليست حدثاً عادياً من عمر الأزمة السورية. الحدث ومهما حاول خصوم النظام تهوينه هو حدث مفصلي. كان مُحضّراً لشرق حلب أن تكون أنموذجاً مضاداً ومغايراً للنماذج القومية والعلمانية في المشرق العربي. أنموذجاً لا يمكن التنبؤ به, لكنه لن يكون بالتأكيد النموذج المنشود او المثالي للتخلص من الأنظمة الشمولية في هذه المنطقة. ولن يكون حلاً لمنطقة غارقة في الصراعات, في غياب بنية سياسية واجتماعية محلية قادرة على صياغة عقد اجتماعي وسياسي ملائم. معركة توحيد حلب هي ليست نهاية الحرب لكنها خطوة حاسمة في اتجاه إنهاء الصراع.

العدد 1140 - 22/01/2025