صحفيو سورية..الحبر الدخاني !

 يكتبون للضوء الذي أقسموا أن يبقى ضوءاً رغم العتم المطبق، يشرعون رايات الألم والوجع قبل أن يشرعوا أقلامهم لكتابة التحقيقات، فيبصر النور عندئذ تحقيقاً بحجم آلام مخاض قلوب المغمورين والمسحوقين والذين لا أحد يكترث بهم سوى ذاك الحبر الذي يخطّه صحفيو سورية وخاصة في هذه الأزمة. يولد التحقيق متكاملاً متناغماً مع الأوضاع الاقتصادية تحديداً، وواضعاً حبره على الوجع تماماً موصفاً للواقع بلا تجميل وبحياد تام .. ولكنه ما إن ينطلق كالصاروخ نحو الفضاء  الورقي أو الإلكتروني  حتى نشهد تبدده كما نشهد تبدد دخان الصاروخ المنطلق للتو، ببساطة لأن المسؤولين الذين يقع على عاتقهم الرد على تحقيقات الصحفيين لم يعد يعنيهم لا الصاروخ ولا دخانه.

تخرّج كلية الإعلام كل عام مئات من الشباب ذوي الدماء الفتية المتحمسة للعمل الصحفي، ولكشف مواقع الخلل  وفضح من يتسبب بإغراق المواطن السوري وخنقه تحت بحر الفساد الذي لا نهاية واضحة لامتداده، ولا أمل نهائياً بتجفيفه، فالسواقي كلها شكلت ذاك البحر. ومَنذا الذي يقدر أن يجفف بحراً؟؟

ولكن لمن نكتب؟ ولمن نحمل وجعنا ووجع الفقراء قبلنا إن لم يكن هنالك من يحل مشاكل الأقلام؟ لمن كل ذاك الحبر الذي يسيل ولا أحد يتلقاه إلا بالصد والنكران وعدم الاستجابة؟ لماذا تخرجون أجيالاً من الصحفيين إن لم تكونوا لميثاق الصحافة مصغون ومتلقون؟هل مهمة الصحفي أن يحرق روحه ويسكبها في حبره الذي سيتبدد  حتما كالدخان المنبعث من نار الأسى والألم، في بلد يصمّ مسؤوليه السمع عن كل صرخة حق .

السلطة الرابعة في بلدنا تفتقر إلى السلطة التنفيذية، فيها كل مستلزمات العمل الصحفي وأهمها الجرأة، نعم لقد رفع إعلامنا صوته وحدد أهدافه في ايصال صوته إلى من يهمه الأمر. ولكن ماذا عن صمّ الآذان من أولئك الذين الأمر بيدهم.. والسؤال هنا: ماذا لو تناغمت السلطة الرابعة مع السلطة التنفيذية؟ ألن نشهد وقتئذٍ قفزة صحفية شبيهة بدول العالم الآخر حيث يحسب للصحفي ألف حساب إن هو قرر أن يكتب عن مؤسسة ما تشوبها بعض الأخطاء؟؟

في البلدان الأخرى يتمتع الصحفي بحرية الصحافة وحمايتها، والأهم معرفته المسبقة أن تحقيقه القائم على أسس ميدانية، ووثائقية وبشهادة الشهود سيطيح حتماً برؤوس كثيرة تتلاعب باقتصاد البلد الذي يعيشون فيه. الصحفي يمثل صوت سلطة توصف بالرابعة على مستوى العالم، وله كامل الحق في فضح من يجب فضحه، وهو يتمتع بحصانة وحماية خاصة فعمله الصحفي كالمرآة سواء للحكومة أم للشعب  لذلك حبره لا يستحيل إلى دخان، كما هو الحال لدى الصحفي السوري..

لا يريد الصحفي السوري إلا الردود ومعالجة المشاكل التي استفحلت وصارت بؤراً ومرتعاً خصباً يتهافت عليه الفاسدون من كل حدب وصوب. يكتب الصحفيون لتجفيف مستنقعات الفساد، فهي من جلبت كل ذاك الأسى للمواطن. ويومياً تكتب آلاف الزوايا والتحقيقات الإلكترونية والورقية وكلها يصب ويدور حول مشاكل المواطن وهمومه وفقره وعوزه، والمتسبب بكل هذا هو من يخرب اقتصاد البلد ومن يستغل منصبه لتحقيق الرفاهية له ولأسرته وللمقربين من حوله. لو أن هنالك من يعالج تلك القضايا لما تكررت الشكاوى ولما سال حبر يملأ الورق يومياً بالهموم وإحصاء عدد الفقراء والأغنياء الذين يزدادون بنسب متماثلة .

صحفيو سورية.. رحلة إنسان يحمل قلبه في فمه وفي حبره، وهم يصعدون جبلاً وعراً قاسياً يختبئ مسؤوليو في الكهوف والمغاور، وهم يحرسون أموالهم .. تزعجهم نعم صرخات الصحفيين وهم يواصلون صعودهم ودفاعهم عن فقراء وطنهم، ولكنهم اعتادوا ذاك الصراخ فصار مألوفاً، وفي قرارة النفس أن الوادي سيمحو صدى ذاك الصوت.

صحفيو سورية كما الجندي السوري يحاربون الشر رغم استحالة القضاء على ذاك البلاء.. ولكنهم مازالوا مستمرين في معركتهم ولو كانت النتائج غير مجدية ولو كانت التضحيات ثمينة، فمن نذر حبره للحق كمن نذر دمه لقسم الوطن . وقسم الوطن كمن يقسم على كتاب مقدس هكذا قال لنا الأجداد. ومن يقسم بالحق لابد أن يشرق النور من ذاك القسم.   

العدد 1140 - 22/01/2025