معركة إدلب في عين العاصفة
السياق القائم على التدخل في الشؤون الداخلية لسورية، لتغيير الموازين القائمة كان خطراً للغاية، من حيث ضبابية النتائج وعدم إمكانية اختيار البديل المنطقي. ففي محافظة إدلب السورية حاولت الولايات المتحدة (وهي قوة دولية) وتركيا (وهي قوة إقليمية) طرد شرعية الدولة؛ لكنهما عجزتا فعلياً عن إيجاد أي شرعية تملك حدّاً أدنى من المعايير الإنسانية والحقوقية والأممية.
انطلقت معركة إدلب أخيراً، واندفع الجيش السوري من جنوب المحافظة وجنوب شرقها، ومن محور موازٍ له هو محور الحاضر (جنوب غرب محافظة حلب). في البداية حرر الجيش السوري مساحات واسعة من ريف حماة الشمالي والمحيطة بقرى رسم الأحمر، ورسم صوان، والشحاطية، وجب أبيض، وخربة جويعد، ودخل مع العام الجديد الحدود الإدارية لمحافظة إدلب من الجنوب الشرقي، محطّماً خطوط الدفاع الأولى للمجموعات الإسلامية المسلحة عند قريتي أم جلال والخوين الكبير، ثم أم الخلاخيل وأم التينة والزرزور والنيحة وشم الهوى. ومع نهاية الأسبوع الأول من الشهر الحالي كانت قد سقطت ايضاً قرى اللويبدة وأم التينة وبريصة.
إن تطور الخطط العسكرية للجيش السوري وحلفائه جاءت على خلفية هزمه (تنظيم الدولة الإسلامية) في البادية السورية وفق استراتيجية عسكرية مركّبة من نموذجين، الأول: قضم الجبهات بشكل متدرج وتقطيع أوصال جغرافيا الخصم، والثاني: الأسلوب الاختراقي بقوات نخبة تتقدم بشكل طولي وفق أسهم جغرافية محددة. هكذا استطاع الجيش السوري وحلفاؤه تشكيل طوق شبه مغلق يحيط بنحو 300 قرية وبلدة بين قريتَي أبو الظهور ورهاج. لاحقاً ورغم نجاح المجموعات الإسلامية المسلحة استرداد بعض الجغرافيا التي خسروها بهجمات معاكسة، لكن السياق العام كان لصالح الجيش السوري خاصة على محور الحاضر.
من الواضح أن العملية العسكرية للجيش السوري كانت مخططة على مراحل، المرحلة الأولى: الوصول إلى الحدود الإدارية لمحافظة إدلب. المرحلة الثانية: الوصول إلى مطار أبو الظهور العسكري، المرحلة الثالثة: تأمين محيط المطار. ونعتقد ان الجيش السوري في المدى القريب سيتوقف عند المرحلة الثالثة، لاعتبارين رئيسين، الأول ميداني يتعلق بطبيعة توزع القوى داخل محافظة إدلب. والثاني سياسي يتعلق بالعملية السياسية المرتقبة في مؤتمر سوتشي، إضافة إلى التطور المهم الذي حصل في منتصف الشهر الجاري بإعلان دعم الولايات المتحدة (قوات سورية الديمقراطية) تشكيل قوة حدودية تنتشر على الحدود السورية التركية، ما استدعى ردَّ فعل عنيفاً من أنقرة، وتحضيرات لغزو منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية، والمحاذية لمحافظة إدلب.
ووفق المنظور الروسي للحل السياسي في سورية، فإن الكرد السوريين مكوّن أساسي للحل، ولا يمكن تطبيق القبول العام الداخلي للحل السوري دون هذا المكوّن. ويرى الكرملين أن قطف المكاسب السياسية للانتصار الميداني في سورية بات ملحّاً، وإلا فسيتحول هذا الانتصار إلى استنزاف حقيقي، ولروسيا تجربة مريرة في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. في الوقت نفسه ترفض أنقرة رفضاً تاماً إشراك كيانات سياسية كردية في الحل السياسي السوري خوفاً من تكريس القضية الكردية، معتبرة- على حدّ زعمها- أن هذه الكيانات هي واجهة لمجموعات مسلحة كردية (إرهابية). ولذلك برز اختلاف جوهري بين طرفين فاعلين في الأزمة السورية، نتج عنه ارتفاع وتيرة التصعيد في إدلب، في محاولة من الطرفين تحقيق أكبر مكاسب قبل مؤتمر سوتشي. لكن، مع تقدم الجيش السوري وحلفائه، تجنّبت موسكو أي مواجهة مع الجانب التركي، متجاهلة في الوقت نفسه تصعيد الجيش التركي في منطقة عفرين، ضمن سياق أستانا، في إشارة واضحة إلى نيّة الكرملين تجاوز أيّ مأزق محتمل مع أنقرة قبل موعد هذا المؤتمر.
معركة إدلب المستمرة ستصل إلى لحظة الانفراط، بين فوضى الأصول التكوينية للمجموعات المسلحة، التي بعضها وصل باتفاق المصالحات وبعضها مؤصل وبعضها مهاجر. لقد أوضحت الأزمة المركّبة في محافظة إدلب أن الأزمة السورية ما تزال شديدة التعقيد، لأن الازمة السورية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصياغة الشرق الأوسط ككل، بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق فلسفتين سياسيتين أساسيتين تحاول فرضهما الولايات المتحدة، الأولى: حماية إسرائيل، والثانية احتواء إيران. هكذا، في المدى المنظور، تبقى الأزمة السورية عصيّة على الحل، ولابد لنا أن نعود ونكرر أن الشرط السوري الداخلي مهم في الحل، بإيجاد صيغة محلية ملائمة يتفق عليها أفرقاء الصراع في سورية.