ذاكرة المحارب!

كان الليل في آخره، وكان الفجر الطالع  أغنية طوّحت بكل الخوف الذي أحاط بتلك القرية، بعد شهور طويلة من المعارك بين الغرباء الذين جاؤوا من كل مكان، وأهلها الذين دافعوا عنها حتى آخر لحظة.

لم ينم الجندي محمود تلك الليلة أبداً، وكيف ينام، وقد أيقظ المكان الذي هو فيه كل شيء في ذاكرته دفعة واحدة.. أقام الجنود في مدرسة القرية، وكانت المقاعد مكسّرة محروقة متناثرة، فقد خُرّب كل شيء فيها..  شعر بالحزن، فما ذنب المدارس والمقاعد والكتب؟

هزّ رأسه بحزن!

استعاد محمود صوراً قديمة في ذاكرته، عن مدرسته التي يحبها.. عن قريته التي لم يشاهدها منذ أكثر من سنتين.. تراءى له المشهد كفيلم سينمائي وثائقي بالأبيض والأسود.. فيلم يعود إلى الماضي وهو يحكي عن الحاضر.. فهاهو ذا معلم الصف يحكي لهم عن عيد الجلاء، وعن مقاومة السوريين للمستعمرين الفرنسيين.

هاهو ذا المعلم يحكي لهم عن فلسطين والمقاومة وعز الدين القسام وجيش الإنقاذ.. قال لهم المعلم:

– فلسطين هي قضية العرب الكبرى.. يجب تحرير فلسطين، لأن العدو توسعي يريد تمزيق بلادنا للنفاذ إلى أوسع مساحة يستوطن فيها. ويومذاك، طلب منه المعلم أن يقف، وسأله:

 ماذا ستفعل عندما تكبر من أجل فلسطين؟

أجاب محمود:

 سأكون جندياً يقاتل من أجل الوطن!

وطلب المعلم من التلاميذ أن يصفّقوا لمحمود.. فصفّق له الجميع.

بعد دقائق سأله المعلم:

 هل تحب الذكريات؟!

 أحياناً ..

 وماذا تحب فيها؟!

 كل شيء يتعلق بالقرية.

***

أشرقت الشمس، وترامت من القرية أصوات الديكة في صياح متتالٍ، تدعو الناس إلى الاستيقاظ، لأول مرة منذ شهور طويلة يستيقظ الفلاحون بأمان وقد أشرقت وجوههم.. وعلى الفور سمع محمود كلام القائد الميداني يأتي من خارج المدرسة:

 سندخل القرية، ادخلوها آمنين مطمئنين..

ترك ذكرياته، ومسح بيده على مقعد قريب منه، وقال:

 لابد أن تنجو بلادنا.. لابد أن تنجو بلادنا!

العدد 1140 - 22/01/2025