حكاية الهدهد الذي كان مع أمي عندما سافرت بلا حقائب!
خرجت من السجن، كانت الساعة قد قاربت العشر سنوات إلا خمس دقائق، كنت أردد كلمات آخر قصائد الحب التي قرأتها هناك لسجين بلغ اثنين وستين عاماً، كتبها لأمه وقال لها: ضمّيني إليك مثل طفل صغير!
كان خائفاً من أن تموت، فحسدته معجباً بقصيدته وبأمه التي مازالت على قيد الحياة مثل شجرة سنديان..
بعد شهرين، توقفت أمي عن الكلام. عرفت أنها أضربت عن الكلام.
آخر عبارة قالتها: تفووو!
ولم أعرف على من..
وكانت لاتتألم، وتقوم بتثاقل، ثم لم تعد تستطيع الحركة، رجوتها أن تقوم فلم تفعل، أضربت أيضاً عن القيام، وآخر حركة قامت بها هي دفع أصابعها بعيداً وكأنها تطرد أحداً ما.. ثم ما لبثت أن أضربت عن الطعام، فيبقى الطعام في فمها يوماً كاملاً إلى أن أخرجه بإصبعي!
في الأيام الأخيرة، شاهدت الهدهد فوقها. كان لونه أخضر، وكانت عيناه قريبتين من عيني بني آدم، وكأنه يعبر بعينيه. كان يرافق صمتها وجوعها وآلامها المخفية، سألته:
– اسمع أيها الهدهد! اترك أمي وشأنها!
قفز الهدهد إلى الجانب الآخر، ورمقني محتجاً!
قال أخي: جنّ أخي!
وقال جارنا للشرطة وهم يسألون عن سلوكي بعد خروجي من السجن: جارنا جن!
ضحك رجال الشرطة، واطمأنوا. ولم يحك أحد عن الهدهد!
في آخر أسبوع، هزل جسد أمي، وراح لحمها يتآكل لأنها لا تتحرك على الفراش، وكنت أحاول تقليبها ومسح الدماء عنها، دون جدوى.. كان الهدهد يراقبني، إلى أن ظهر عظمها، وأجزاء من كليتيها.. وكان الهدهد يراقبني باهتمام!
كان ذلك صباحاً.. عندما تحرك الهدهد على غير العادة، كان ينطّ حولها في أرجاء الغرفة كأنه يتحفز لشيء ما. سمعت صوتها: أريد ماء! لم أصدق. الهدهد لم يصدق أيضاً!
أوقفت أمي إضرابها عن الكلام. ركضت نحوها وبيدي الماء، نطّ الهدهد كمجنون يرقبني من الجهة المقابلة، أحسست أنها تريد أن ترحل.. قلت لها: ابقي قليلاً.. ابتسمت.. لوّحت بوجهها ترفض. وكان الهدهد قد غيّر مكانه.. ليسمع حديثنا جيداً.. طلبت منها أن تنحني لله، وتخبره أنني سأعود طيباً، وأن الشرطة سألوا جارنا عني وارتاحوا كثيراً بجوابه..
ضحكت أمي.. ورددت شيئاً. أغمضت عينيها وفاحت منها رائحة حليب قديم شربته من ثديها وأنا طفل صغير.. بحثت عن الهدهد، لم أجده..
صرخت:
– آ آ آ!!
أخذ الهدهد عرشها قبل أن يرتد طرفي إلي..
قال الجميع إنها ماتت، وأيقنت أنا أنها ملكة، وإلا ماذا كان يفعل الهدهد عندي!