التقرير الاقتصادي أمام اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري الموحد

نحو رؤية وطنية لإعادة الإعمار 

قدّم الرفيق فؤاد اللحام (عضو المكتب السياسي للحزب)، في اجتماع اللجنة المركزية، تقريراً موجزاً حول أهم مستجدات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في البلاد، هذا نصّه:

شهدت الأوضاع الاقتصادية في سورية مؤخراً تحسناً نسبياً نتيجة استعادة شرق حلب وعدد من حقول النفط والغاز ومحطات توليد ومراكز تحويل الكهرباء وفتح قناة الري بين مسكنة وحلب، إضافة إلى صدور مجموعة من التشريعات والقرارات التي ساعدت إلى هذا الحد أو ذاك في عملية إعادة تأهيل وتشغيل جزء من المنشآت الانتاجية والخدمية الخاصة والعامة، وإقامة مشاريع صناعية جديدة في المدن والمناطق الآمنة، وتنشيط عملية التصدير وبشكل خاص من بعض الفواكه والخضار والمنتجات النسيجية والغذائية. وقد ترافق ذلك بتحسن ملموس في أوضاع الكهرباء والمشتقات النفطية.. كما شهدت الفترة السابقة انخفاضاً كبيراً في أسعار القطع الأجنبي، رسمياً وفي السوق السوداء، تراوح بين 80 و100 ليرة سورية في الدولار الواحد، وقد ساهم  تحسن الأوضاع الأمنية  والعسكرية  والتحركات السياسية  الاقليمية والدولية وكذلك الصادرات وحوالات السوريين في الخارج بدور في هذا التحسن الذي يعود جزء منه أيضاً إلى استمرار الاشتباك الدائر بين مصرف سورية المركزي وفئة المضاربين على الليرة السورية في السوق السوداء، الذين يعملون على تحقيق الأرباح الفاحشة من خلال العمل على  خفض قيمة الدولار ومن ثم معاودة ارتفاعه.

إلا أن التحسن الجزئي في الأوضاع الاقتصادية لا يعني أن الاقتصاد السوري قد تجاوز أزمته، فما تزال عشرات الألوف من الأراضي الزراعية والمنشآت الانتاجية والخدمية الخاصة والعامة خارج العمل والإنتاج حتى الآن، وما أعيدَ تأهيله وتشغيله من هذه المنشآت لا يشكل إلا جزءاً بسيطاً مما كان قائماً ومنتجاً قبل الأزمة. كما أن المستجدات الاقتصادية الإيجابية التي سبقت الإشارة إليها، لم تنعكس، كما تثبت الوقائع حتى الآن، بشكل ملموس على الأوضاع الاجتماعية، فقد كانت منعكساتها على التشغيل وخفض أسعار المواد المنتجة محلياً أو المستوردة مقتصرة على عدد بسيط من السلع وبانخفاض محدود. الأمر الذي أدى إلى استمرار تراجع المستوى المعيشي لغالبية المواطنين، بسبب ثبات الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة واستمرار وقف العمل بالبطاقة التموينية، وقد بُدئ مؤخراً بتنظيم بطاقات إلكترونية بديلة عنها طبِّقت جزئياً في توزيع مادة المازوت، إلا أنه لم يُحدَّد، حتى الآن، موعد تفعيلها كلياً، ولا نوع المواد الأخرى المشمولة بها وحجمها. يضاف إلى ذلك ضعف الإجراءات الحكومية العملية في حماية المستهلك ومكافحة الاحتكار ورفع الأسعار وفرض الالتزام بالأسعار المحددة والإعلان عنها. حتى أن مستوى الأسعار في صالات الشركة السورية للتجارة ليس في معظم الحالات أقل من أسعار السوق، إن لم يكن بمستواها أو حتى أعلى منها أحياناً، على الرغم من الإعلان عن إلغاء عقود استثمار الصالات التابعة لهذه الشركة وتحولها إلى تاجر جملة يفترض أن يقدم السلع التي يقوم بشرائها وعرضها في الصالات التابعة على هذا الأساس.

وعلى الرغم من المطالبات العديدة برفع الأجور وخفض الأسعار، ما تزال الجهات الحكومية المعنية تناور في هذا المجال وتؤجله وتربطه بتوفر الموارد اللازمة لذلك، من خلال تنشيط عملية الإنتاج وتعافي الاقتصاد الوطني، والتخويف من انعكاس أية زيادة حالية في الأجور على رفع الأسعار، ما يعني، حسب رأيها، امتصاص هذه الزيادة. وعلى الرغم من المنطقية الشكلية في هذا الطرح، إلا أنه بالإمكان اللجوء إلى عدد من الاجراءات التي من شأنها رفع مستوى الأجور والقدرة الشرائية وتحسينها، لأعداد واسعة من العاملين والمواطنين على الأقل جزئياً، وذلك من خلال إعفاء العاملين من ضريبة الأجور، وتمويل زيادة الأجور من خلال زيادة الضرائب المباشرة، وبشكل خاص على أصحاب الدخول والأرباح المرتفعة، ومكافحة التهريب والتهرب الضريبي، والإسراع في تطبيق البطاقة التموينية الإلكترونية، وتوسيع مجموعة السلع المدعومة التي تشملها وتقديمها بأسعار مخفضة.

إن ثبات ألأجور وتراجع قدرتها الشرائية، إضافة إلى البطالة والنزوح وغيرها من نتائج الأزمة، قد أدى إلى ازدياد حدة الفقر وتراجع الأمن الغذائي في البلاد بكل أشكاله ومستوياته. وقد أظهرت مؤخراً نتائج مسح تقييم الأمن الغذائي في سورية عام 2017 الذي قام به المكتب المركزي للإحصاء، بالتعاون مع هيئة التخطيط والتعاون الدولي وبرنامج الأغذية العالمي، وشمل أكثر من 5 آلاف أسرة في 11 محافظة، أن 31% من السكان غير آمنين غذائياً، وأن 45,6% منهم هم ضمن فئة المعرضين لانعدام الأمن الغذائي و23,4% فقط أي أقل من ربع سكان سورية يعتبرون آمنين غذائياً. وكانت أعلى نسب عدم الأمن الغذائي في المحافظات السورية، حسب المسح المذكور، تتركز في المحافظات التالية: السويداء 46,5% ، درعا 42,5%،  حلب 2,40%  حماه 39%  الحسكة 37,3% ريف دمشق  35,3%.

كما استفحلت ظاهرة الغش والتزوير في مختلف المدن السورية، ولم تقتصر على المنتجات المستوردة، بل شملت أيضاً المنتجات المحلية أيضاً، وأصبحت المعاناة من المنتجات الدوائية والغذائية المهربة والمزورة والمغشوشة تشكل خطراً كبيراً على صحة المواطنين، وبشكل خاص ما يتعلق بالألبان والأجبان واللحوم والدجاج، مع ملاحظة الدور المحدود جداً للجهات الجمركية والرقابية في مكافحة هذه الظواهر.

إن معالجة المشاكل والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي استفحلت نتيجة الأزمة يجب أن تتحقق وفق رؤية متكاملة تجمع بين المعالجة الفورية والمستقبلية للمشاكل الراهنة وعلى المديَين القصير والمتوسط. وكذلك البحث الجاد عن مصدر لتمويل زيادة حقيقية في الرواتب والأجور، سواء في حجم الراتب أو في قدرته الشرائية الفعلية، بعيداً عن رفع أسعار المواد الأساسية (المحروقات) كما جرت العادة التي تمتص هذه الزيادة. في الوقت ذاته الذي يجب فيه الإسراع في دفع التعويضات للمتضررين بشكل أكثر عدالة وتمكينهم من العودة إلى بيوتهم وأراضيهم ومنشآتهم لإعادة تأهيلها وتشغيلها.

وعلى الرغم من إصدار عدد من القوانين والمراسيم والقرارات التي شجعت عدداً من المستثمرين على إعادة تأهيل وتشغيل منشآتهم الصناعية والخدمية، إلا أنه يلاحظ وجود تأخر ومماطلة في إصدار العديد من القرارات والأمور الضرورية في هذا المجال، وتفعيلها، وتنفيذها، وبشكل خاص ما يتعلق بصرف التعويضات للمتضررين، وتوفير التمويل الإنتاجي لهم، وتمكينهم من الدخول إلى منشآتهم والعودة إلى أراضيهم ومنازلهم في المناطق التي جرت استعادتها.

فعلى نطاق دفع التعويضات التي لحقت بالمباني والمنشآت الخاصة، ما تزال العملية بطيئة ومحدودة ومحصورة بسقف 10 ملايين ليرة سورية للبناء فقط دون الآلات والتجهيزات. وعلى سبيل المثال بلغت أضرار محافظة ريف دمشق في المناطق التي تحررت من الإرهاب حتى تاريخ 30/11/2017 نحو 971,6 مليار ليرة سورية، وذلك للعقارات السكنية والسياحية والمحال التجارية والمعامل دون حساب كلفة الأضرار في المنشآت الحكومية والخدمية والبنى التحتية، وأن عدد الطلبات التي تقدم أصحابها بطلبات تعويض عن الأضرار حتى نهاية تشرين الثاني من العام الماضي بلغ نحو 63 ألف طلب، منها نحو 49 ألف طلب تعويض أضرار للعقارات و5147 طلباً للسيارات و7600 طلب للمصانع والمحال التجارية والمنشآت السياحية المتضررة. وأن ما صُرف هو بحدود 7,1 مليار ليرة فقط أي أقل من 2 بالألف وذلك وفقاً للنسبة المعتمدة في الصرف بناء على قرار لجنة إعادة الأعمار والمحددة بـ30 بالمئة من قيمة الكشف الحسي على ألا تتجاوز القيمة الكلية للتعويض للطلب الواحد 10 ملايين ل. س. وما تزال الجهات المعنية ترفض طلبات الصناعيين والمتضررين الآخرين برفع قيمة التعويض عن الأضرار من 10 ملايين إلى 100 مليون، ففي الوقت الذي بلغت فيه أضرار أحد المعامل 2,5 مليار ل. س فإن سقف تعويضه 10 ملايين ل.س فقط.

وعلى نطاق تمويل القروض الإنتاجية، وبعد عدة سنوات من المناقشة والدراسة، سمحت الجهات الحكومية المعنية بمعاودة منح القروض الإنتاجية، لكنها حصرتها بقطاعات وأنشطة محددة ووضعت شروطاً قاسية لمنحها، ما أدى حسب تصريحات العديد من المسؤولين المصرفيين إلى عدم تقدم أحد حتى الآن لطلب قرض وفق هذه الشروط التي كانت مثار انتقاد وتحفظ الصناعيين والحرفيين والمختصين وحتى بعض المسؤولين المصرفيين. في الوقت ذاته الذي لم تتحرك الجهات الحكومية المعنية باتجاه تفعيل تطبيق القانون الخاص بإحداث مؤسسة ضمان مخاطر القروض للمشاريع الصغيرة على الرغم من مضي سنتين على صدوره. وهذا ما يشير إلى ظاهرة (قرارات رفع العتب) التي يجري اتباعها بإصدار شكلي لهذا التشريع أو ذاك وعدم تطبيقه، أو وضع تعليمات تنفيذية تجعل عملية تطبيقه صعبة وغير مقبولة، وفي الحالتين عدم تنفيذ هذه التشريعات والقرارات.

وفيما يتعلق بإصلاح القطاع العام الاقتصادي، فإنه ما يزال قيد البحث لدى اللجنة الوزارية التي شُكلت مؤخراً، وما سُرِّب عن توجهاتها حتى الآن لا يخرج عن نطاق العموميات المعروفة الموجودة حالياً والتي لا يجري تنفيذها والالتزام بها، وبشكل خاص ما يتعلق باستقلال جهات هذا القطاع إدارياً ومالياً، والتوازن بين مسؤوليات إداراته وصلاحياتها ومعايير اختيارها. وقد منحت اللجنة المكلفة دراسة واقع هذا القطاع مؤخراً كل وزارة مدة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر (منتصف عام 2018) لإعداد الدراسة المتعلقة بمؤسساتها وشركاتها ذات الطابع الاقتصادي والمصفوفة الزمنية اللازمة لإصلاحها.

من جانب آخر، ما تزال آثار الأزمة على القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني تؤثر سلباً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بسبب خروج مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية من الإنتاج وعدم التمكن من زراعتها وجني محاصيلها، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي من الأسمدة والأدوية والتأخر في تسعير بعض المنتجات، الأمر الذي أدى إلى تراجع كبير في إنتاج المحاصيل الأساسية كالقمح والقطن والشوندر السكري، وانعكاس ذلك على الصناعات المرتبطة بهذه المنتجات. وتزداد المخاطر والآثار السلبية على القطاع الزراعي في هذا العام خصوصاً نتيجة الانخفاض الكبير في هطول الأمطار والتوقعات بانحفاض الانتاج الزراعي البعل والمروي نتيجة نقص المياه وانخفاض مستوى الآبار. الأمر الذي يتطلب من الجهات الحكومية المعنية مراجعة الخطط الزراعية الموضوعة واتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة هذه الأوضاع والحد من أثارها السلبية سواء بالنسبة للزراعة أو لمياه الشرب.

من جانب آخر، شهدت الفترة الأخيرة بروز وجوه جديدة من رجال الأعمال، إضافة إلى الوجوه القديمة المعروفة، وقد قامت بشراء منشآت صناعية وسياحية قائمة، والتعاقد على إقامة منشآت صناعية وتجارية وسياحية وسكنية جديدة بشكل منفصل أو ضمن خطط إعادة اعمار المناطق المدمرة في دمشق وغيرها مستقبلاً، وسط تساؤلات ومخاوف كبيرة وواسعة عن مصادر أموال هذه الشخصيات ودورها في الحصول على استثمار تلك المنشآت بشكل مباشر و/ أو تفصيل عملية إصدار عدد من القرارات الاقتصادية لصالحها!  ما يثير مخاوف من بروز قوى اقتصادية جديدة ومتجددة توجه عملية إعادة تأهيل المرافق الأساسية في سورية وبنائها، لمصالحها ومصالح شركائها، على حساب مصالح الشعب السوري، بما يشبه ما جرى ويجري في هذا المجال في كل من لبنان والعراق.

أخيراً، أخذت مسألة إعادة إعمار سورية تستأثر باهتمام واسع، لا من قبل الأصدقاء وحسب، بل حتى من قبل الأعداء والأعدقاء، فالكعكة كبيرة ومشهِّية، والجميع يسعى للحصول على أقصى ما يمكن منها، وربما يشترط الحصول على أكبر حصة منها للعمل على وقف الحرب في سورية وعليها. وهذا يتطلب رؤية وطنية واضحة حول هذا الموضوع، وتحديد واضح للمشاريع التي تتطلبها عملية إعادة الإعمار والأولويات التي سيتم اعتمادها. وفوق ذلك وقبله الاستفادة من الدروس المستخلصة من الفترة السابقة للأزمة وخلالها، والمتعلقة بمكافحة الفساد، والتشدد في تطبيق الشفافية، والوضوح في تلزيم المشاريع وتنفيذها، سواء في المرحلة الراهنة أو في المرحلة المستقبلية. وهنا لا بد من التأكيد على الدور الأساسي للقطاع العام في عملية إعادة البناء والإعمار، وتولّيه ملكية المرافق السيادية العامة الأساسية في البلاد وإدارتها وتشغيلها، بما يضمن خروجاً سليماً لسورية من هذه الأزمة وتجنيبها حدوث أية أزمة أخرى في المستقبل.

العدد 1140 - 22/01/2025