مخيم اليرموك وخصوصية المكان
دروب المخيم مكفهرة، أسير في شوارعه خائفاً تتناهبني الهواجس، وتنقض على الهموم من هذا السكون المريب. وقد كنت أضجر من الضجة وجلبة ازدحام الناس في شوارعه وأزقته. شارع اليرموك اليوم يبدو حزيناً ما خلا بعض الخطا من متعجل يريد بعض متاعه أو الاطمئنان على بيته الذي هجره. شارع اليرموك الآن يتوق إلى الضوضاء والبسطات المتناثرة على جانبيه، شارع لوبية استباحه الصمت ولا شيء غير الريح تعوي فيه ذهاباً وإياباً، شارع لوبية المكتظ دائماً بالصبايا الفاتنات والنساء الجميلات يستسلم مكرهاً للهجران. شارع فلسطين يشبه اليوم أطلالاً مهجورة منذ آلاف السنين، وهو الذي ما استراح يوماً من الازدحام. يفجؤني الغبار والركام في شارع ال(15) وهو الذي طالما وصف بالنظافة والرخاء.
إذاً ليست الأمور التي تجري في سورية غير طبيعية فقط، بل هي جنون دموي يقود إلى الدمار والهلاك والتشرذم والتشتت والفوضى التي طالما تخوفنا وحذرنا منها.
وإذا كانت كل الأماكن في سورية لها مكانتها وقدسيتها في نفس كل سوري وطني يعشق ويفتخر بانتمائه إلى سورية ويحن إلى جذور الماضي الزاهر عبر التاريخ، إذا كانت كل هذه الهالة والقدسية تجعل من كل شبر في سورية مكان اعتزاز وتفاخر، فإن الفلسطيني في الشتات له ما يعتز به أيضاً علاوة على اعتزازه ومحبته لتلك الربوع الغالية في بلده فلسطين.
وما مخيم اليرموك إلا مثال على رمز فرض نفسه على كل الفلسطينيين في المنافي والشتات، بحيث أصبح العاصمة والحاضرة الأكثر اجتذاباً واهتماماً لكل فلسطينيي الشتات في كل منافيهم الاختيارية والقسرية. فهو الذي توجد فيه المؤسسات النقابية الفلسطينية، ومكاتب الأونروا التي تذكِّر دائماً بالتشرد واللجوء. وفي المخيم أيضاً الرموز السياسية والثقافية بكل انتماءاتها الفصائلية والفكرية في الشتات. مخيم اليرموك كان وما زال رمزاً للثوار والثورة حين كانت في أوج اشتعالها، وهو الذي قدَّم خيرة شبابه شهداء في معارك التضحية والفداء. مخيم اليرموك الذي كانت وما زالت الاحتفالات والمهرجانات ومواكب الشهداء تجري على أرضه. مخيم اليرموك الذي يطوي ترابه القادة والسياسيين الذين قادوا النضال الوطني على امتداد عقود، ويحتضن ترابه أيضاً الأدباء البارزين والمثقفين الذين يتألمون اليوم في قبورهم على ما آل إليه الوضع في سورية والمخيم. فلماذا استبيح المخيم ولم يترك بعيداً عن هذا التناحر الدموي؟ لماذا لم يتركوه لخصوصيته عند الفلسطينيين الذين يعانون التشرد والضياع، ويحملون حلم العودة إلى الأوطان جيلاً بعد جيل؟ لماذا يريدون أن يكون المخيم طرفاً في هذا الصراع، وليس للاجئيه خصومة مع أحد؟ في كل دول العالم يوجد غرباء وأجانب وأقصد غير مواطنين، لهم أحياؤهم وخصوصيتهم، وإذا ما حدثت ثورة أو احتجاجات واعتصامات ضد الحكومات التي يعيشون على أرضها يحيّدون حسب الأعراف والدساتير الدولية. دعوا المخيم للثكالى والأرامل والأيتام الذين تيتَّموا مرتين: الأولى بفقدان الوطن، والثانية بفقدان الأب! اتركوا المخيم لآلامه وأحزانه وأحلام المشردين فيه! دعوهم ينامون على حلم ويصحون على أمل العودة، فهم ليسوا أعداء ولا خصوماً لأحد، إنهم يحبون سورية كمحبتهم لفلسطين!