كنا… وصرنا

حياتنا  كالعادة تملكها المتغيرات، وترويها الساعات المميزة، وتؤلمها أحيانا الذكريات… كل ما فينا يجعل من الذاكرة تعيش الدقائق بثوانيها.

كم من مرة استيقظت منزعجة من صوت بعض أنواع الطيور العالي، فهي تزقزق أمام نافذتي بلا رحمة وتطلق العنان لأسرابها في الفضاء أمام بيتي ويكون الصوت عالياً فيوقظني، وما زلت الآن أعاني أصواتاً تقلق نومي مبدلةً صوت العصافير بالقنابل والقذائف والطيران والصواريخ.

كم من مرةٍ من الليالي الرائعة مرت أمامنا شهباً وتأسفنا لأن أمنياتنا ما لحقت ذيولها، وها نحن الآن لا نلحق مرور الشهب واحداً تلو الآخر ولكنها شهباً من نوع مختلف، شهباً تنطلق من مدافعٍ وهاونٍ فتدمّر عالماً في الجهة المستهدفة، وبدل أن يتحقق حلم أو تنمو أمنية، ترانا نسمع بأن حلماً قد مات وطفلاً قد دفن.

أذكر الأيام العديدة التي كان والداي ينادوننا لنرى الطائرة تحلق بشموخٍ في سمائنا فنعتز ونفتخر بشعورنا بالأمن والاطمئنان لذلك النسر المدافع عنا بكل جوارحه، وذاك الطائر المهيب الذي ننتظر رؤيته، لنجد الآن رؤياه مدعاةً للحزن والألم، ضحيةً للغدر والخيانة، مسلوبَ الإرادة والعلوّ، فما عاد ذلك النسر المحلق راضياً عن طيرانه ولا عدنا نحن مسرورون لرؤيته، فالبلد تموت رغماً عنه وهناك أبرياءً يدفعون ثمن أخطاء غيرهم.

وأما بيتنا الذي يُطلُّ على دمشق العروس التي كانت تشع ألواناً وتشرق بريقاً، تلقاها اليوم معتمةً في معظم أجزائها، ومقطعة الأوصال. كنا نرى فيها نبضَ الحياة فهي المدينة التي لا تنام، ونراها اليوم تأخذ شهيقها بصعوبةٍ وتلبّك..

وإليكم ذكرياتي بصوت مدفعيات رمضان أو عيد الجيش وما شابه من مناسبات وطنية عزيزة ومفتخرة، أما الآن ففيها الصدمة والحزن والوجع والخوف، على الرغم من معرفتنا لهدفها ومبتغاه. وأما القمر، وحتى القمر، وها هو ما زال يولد وينمو ويكبر ويموت، وتلك الشمس تنير على الأخيار والأشرار، والسماء تظلل الأرض وتروي الزرع وأما الأرض فتحيي الإنسان.. لا تبخل واحدة منهم عليه، ولا تحرمه الخيرات الكثيرة، ولا تبعد عنه المجد السماوي، عساه يتعلم الحب من القمر، والقوة من الشمس، واللا محدودية من السماء، والعطاء من الأرض… والمجد للإنسان.

دمشق تغيرت، والدمشقيون تغيروا، وشوارعنا يبست، وقلوبنا اسودت.. وأما الطبيعة فمازالت تعطي، تعطي الخير والقدرة، وتعلم الحب والتسامح، وتربي المواطن ليكون مواطناً. فما من مرةٍ تخلّت الطبيعة عن عناصرها كما تخلى الإنسان عن إنسانيته. سيعود اليوم الذي ننتمي فيه لوطننا فنحبه ونخاف عليه ونعتز به وإليه نعمل.. سيعود بيتنا ناظراً دمشق بليلها السعيد وقلبها النابض وحياتها المفعمة…

وإن غداً لناظره قريب…

العدد 1140 - 22/01/2025