طريق… وترقب
في الصباحِ الباكرِ وأنا في طريقي إلى عملي مع جوٍّ غائمٍ وصوتٍ فيروزيٍّ حزين، مرّت بنا حافلة تحملُ عدداً من الرجال، منهم الأب والأخ والابن والحبيب، ويقف كلٌّ منهم على ميل… حاولت أن أضع نفسي مكان كلّ واحدٍ منهم، ذلك الأب المشتاق لأطفاله يفكر في حالهم بعده، هل سيراهم ثانية أم لا، هل سيفرح بابنته يوماً بأن يزفها إلى عريسها؟ وهل سيفرح بابنته الأخرى بشهادتها الثانوية؟ ويقلقه مستقبل ابنه الذي يكبر يوماً بعد يوم وكيف سيواجه الحياة بمفرده.
رأيت الأخ الذي استعاد في ذاكرته آخرَ عيدٍ كان يحتفل فيه مع أخته، وكم من مرةٍ حادثها عن حياتها، حاملاً همّ وحدتها بعد رحيله هذا، مفتقداً أخاه الصغير الذي سيشتاق إليه بعد غيابه وبعاده.
وأمّا الابن المتشوّق لبَركَةِ والديه، والغارق بضيقٍ في التفكير بآخر شِجارٍ في المنزل لخلافٍ في وجهات النظر، ولسببٍ لا يكاد يكون منطقياً، يلوم نفسه بسبب الارتباك الذي خلّفه في المنزل قبل رحيلهِ.
وها هو ذا الحبيب يفكّر بحال حبيبته المنتظرة، وهل للعينين ملقىً قريب وللأيدي تشابك، وكم من الوقت ستترقب لملاقاته أو حتى إنها ستصمد بحبها أمام الجميع؟
نعم، رأيتهم ووقفت للحظةٍ مكانهم، فتراءت لي تصوراتهم، وعشت أفكارهم، وتوجعت لتسارع نبضات قلوبهم.. هم الآن في تلك الحافلة، ربما مخيرون أو مجبرون، ورغم اقتناعهم بالقضية التي هم ذاهبون لأجلها، لكنهم… حزينون.
هذه حالُ شبابنا، أينما كانت وجهة حافلتهم، هم الآن تائهون داخل دخان المدينة وزواريب صراع الوجود، يصرخون ويحزنون ويتعبون ويُقهرون… تاركين نبض الحياة في مواجهة الموت.
(وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان، وحدن بيقطفوا وراق الزمان، بيسَكّروا الغابة، بيضلْهن متل الشتي يدقوا على بوابي).. الأغنية تصدح والحافلة تمرّ ويخترقني حزنٌ غريب وأسئلة في داخلي تبحث عن جواب، تُرى.. هل سيعود هؤلاء الرجال إلى بيوتهم؟ هل سيشهد هذا الطريق فرحة عودتهم إلى ديارهم المُحِبَّة، لزوجاتهم وحبيباتهم وصديقاتهم وإخوتهم وأهلهم؟ إلى متى ستبقى دموع الأمهات منهمرة، وقلوب العاشقات متلوعة، وروح الأقارب مكسورة؟ كم من الوقت سيمضي؟ غابت حافلة الجنود عن نظري، ووصلتُ إلى مكان عملي، لكنّ روحي مازالت تائهة ومسافرة مع ذلك الطريق الذي لن يعلم أحدٌ إلى أين منتهاه!