أسئلة حلب الكبرى!

بقلم د. أيمن أبو الشعر:

الإجابات التي يتمناها الشعب مرهونة بقدرة الجيش السوري والحليف الروسي على التصدي لهذه الهجوم الكبير.

لدى الناس أسئلة خطيرة تتبادر إلى أذهانهم لأول مرة، وخاصة كيف لم يكشف حتى من الفضاء هذا الإعداد خلال أشهر قبل الاقتحام الواسع

 

 

المفاجأة المتوقعة

كيف نحل هذه الإشكالية اللغوية في ضم لفظتين متناقضتين في المعنى عبر مصطلح واحد؟ طبعاً هذا صعب جداً.. ولكن يبدو الأمر عادياً إبان الضباب الكثيف في السياسة الدولية والإقليمية فوق عقدة خطوط متشابكة جداً لنزاع متعدد الأطراف! ولكي يكون حديثنا واضحاً فإنني أقصد بمصطلح (المفاجأة المتوقعة) هو ما يتعلق اليوم بأحداث حلب.

تقول التنظيمات المسلحة في الشمال السوري إنها تمكنت من مفاجأة الجيش السوري وحلفائه بقوات كبيرة اقتحمت حلب، ويقول الجيش السوري إنه اضطر للانسحاب لأنه فوجئ عملياً بأعداد كبيرة جداً من المسلحين تهاجم مواقعه على امتداد مئة كيلومتر!! طبعاً يبرر ذلك بأنه مضطر لهذه العملية لإعادة الانتشار والاستعداد للهجوم المضاد.. والحقيقة أن الغرابة ليست في العبارة نفسها بل في أن مضمونها حقيقي، ويحتاج إلى تفسير لا أريد أن أتوسع في مناقشته الآن، لكن الناس بدؤوا يطرحون أسئلة قاسية ومحيرة نتيجة شعورهم بالقهر والغبن، إنهم يتساءلون أين المخابرات العسكرية السورية؟ وماذا كانت تفعل؟ ولنفترض أنها توجه جلَّ اهتمامها لكشف ومواجهة الهجمات الإسرائيلية المتكررة، وأن إمكانياتها التقنية ضعيفة! حسناً أين المخابرات العسكرية الروسية؟ التي لا يمكن أن تكون غائبة في هذه الظروف العصيبة وقواتها في حميميم، وهل كان صعباً على الأقمار الصناعية الروسية رصد هذا العدد الهائل من المقاتلين وهم يقتحمون المواقع السورية على امتداد مئة كيلومتر؟ كيف يمكن أن يمر ذلك وأن يتحقق هذا الهجوم الضخم جداً بمختلف أنواع الأسلحة؟ الأمر الذي يعيد سورية عملياً إلى المربع الأول مع تشظياته، عبر احتمالات سيطرة التكفيريين من جديد؟

 

الثعلب التركي

السؤال الثاني الذي يطرحه الناس بقوة: ألم يحن الوقت لموسكو أن تكتشف زيف سياسة أردوغان ومكره؟ وحتى إن كانت هناك مقايضة ضمنية غير معلنة، فهي واهية ومجرد مسرحية شكلية تماماً وخاصة فيما يتعلق بسورية. أنا لا أشك في نقاء وصدق الحليف الروسي خاصة أنه معني جداً بخلفيات هذا الصراع الدائر في سورية، فقسم كبير من المقاتلين هم من (المثقفين الحضاريين جداً) الذين جاؤوا بذقونهم ليعلموا الشعب السوري الديمقراطية، الشعب السوري صاحب أول حضارة إنسانية على سطح الأرض، جاؤوا من المناطق الروسية الجبلية في شمال القفقاس وخاصة من داغستان والشيشان وكذلك تتارستان، فضلاً عن مجموعات كبيرة من آسيا الوسطى، وهؤلاء سيشكلون عبئاً حقيقياً على روسيا عندما يعودون إلى ديارهم.

وقد ناور أردوغان المحتل ليكون أحد الأطراف المُساهِمة والضامنة في مشروع خفض التصعيد واتفاقات حل التهدئة، بما يسمى منصة آستانة منذ عام 2017، وهذا أيضا من بين العجائب (أن يكون المحتل والذي يُسلِّح ويدعم بكل شيء علناً الإرهابيين والتكفيريين، أن يكون ضامناً)، وهي في الواقع منصة تفاهم جوهري بين روسيا وتركيا على الحد الأدنى والأقصى لما هو مسموح به، وتشكيل خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها، وقد تجاوزها عشرات المرات المسلحون الذين تدعمهم تركيا، أساساً هذا ما يفسر جولات الحوار العديدة التي كانت تجري في معظم الأحيان بعد خرق من المسلحين الذين ترعاهم تركيا، وجولة تصعيد ميداني خطيرة، بما في ذلك مسرحية فصل المتطرفين عن المعتدلين، وكأنما يوجد بين التكفيريين معتدلين، اللهم إلا إذا قُصِد أن المعتدلين هم الذين يشحذون سكاكينهم إبان قطع رؤوس (الكفار)، عموما كرّس أردوغان احتلاله لعدد من المدن والبلدات في الشمال السوري، وفي الوقت نفسه ظلَّ راعيا لعشرات الآلاف المسلحين الذين يهتفون الله أكبر قبل ذبحهم أي مخالف لهم، والذين بالمناسبة كانوا يفرضون الجزية على المسيحيين في المناطق التي كانوا يحتلونها قبل الانتقال للشمال مثل يبرود.

المهم أن موسكو بالمقابل لم تستفد حتى من هذه المنصة التي كان من المفترض أن تكون وسطية، وأن تراعي على أقل تقدير مواقف روسيا من النازيين الجدد في أوكرانيا، الأمر الوحيد هو أن تركيا لم تلتزم بفرض العقوبات على روسيا علماً أن تركيا نفسها ستتضرر أكثر، إلا أن مواقف أنقرة ظلت مؤيدة لمواقف الناتو وأوكرانيا، ورغم وضوح خطر النازيين الجدد لم تُدنهم أنقرة، بل رفضت الاعتراف لا بالجمهوريات التي كانت روسية وغالبية سكانها من الروس وانضمت إلى روسيا، ولا حتى بانضمام شبه جزيرة القرم إلى الوطن روسيا.

عموما يطرح الناس كيف يمكن أن يقوم التنظيم الكبير المسلح الموالي لتركيا بالتحالف مع (تحرير الشام) أي النصرة – أي القاعدة بعشرات الآلاف بالهجوم على حلب وإدلب وشمال حماة دون أن تكون تركيا وراء هذا الهجوم، قد يسأل سائل وأين اتفاق آستانة، ولماذا تخطط أنقرة لهذا الهجوم الكبير، وما هي الغاية؟ الأمر كما يبدو لي يتعلق برفض دمشق المصالحة مع أنقرة ما لم تؤكد انسحابها من الأراضي السورية التي تحتلها… الأنكى من كل ذلك أن الأحداث الميدانية تؤكد أن مسلحي قسد استغلوا هذه الأجواء، وأرسلوا قوات لهم إلى حلب ووسعوا نفوذهم فيها، وقد وصلني من الناس الذين يسكنون البيت الذي كنت أسكنه في الأشرفية عندما كنت في حلب أنهم اضطروا للرحيل حين شاهدوا مسلحي قسد في شوارعهم.

 

أسئلة الواقع الضبابي

لا نبالغ إذا قلنا إن الوضع حالياً أكثر ضبابية وتشابكاً من قبل، وهو متداخل أيضاً مع مجمل قضية الشرق الأوسط، ومن هنا لا يمكن إغفال الدور الإسرائيلي الذي يتابع بقوة محاولات تدمير سورية بشتى الوسائل، واتساع التدخل الأمريكي الذي لم يعد يكتفي باحتلاله مع (الانفصاليين في قسد)، أخصب منطقة في سورية، بل أوعز لوكالة الطاقة الذرية لخلق إشكالات جدية جديدة مع إيران، ما يرجح خلق مشكلة كبيرة لها بعد قدوم ترامب حليف إسرائيل الأكبر الذي قد يتجاوز الخطوط الدولية الحمراء، ويسمح لإسرائيل بقصف المفاعلات الإيرانية.

ويقول الناس: يمكن كذلك أن يكون هجوم الإرهابيين على حلب، وتوسعهم جغرافيا من جديد في الشمال السوري قد تم بالتنسيق مع إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة، لذا فإن الأمر لا يستدعي مجرد اتصالات هاتفية تطمينية بين موسكو وأنقرة، وكأنما موسكو لا تعرف أن أنقرة هي الراعية لهذا الهجوم،  بل تستدعي إجراء حاسماً ونهائياً، هذه المرة بمعنى تبني الموقف الشكسبيري (أن نكون أو لا نكون- هذه هي القضية)، خاصة أن موسكو حاولت لسنوات فك الحصار بشكل حقيقي وحاسم عن طريق حلب اللاذقية دون جدوى…أحقاً لا تستطيع تركيا فرض مثل هذا الإجراء على الأقل على المسلحين الذين يعملون عندها ويأخذون الرواتب منها، في حين تستطيع إرسالهم للعمل لصالحها في النيجر (لحماية المناجم)، وفي ليبيا وقره باخ لتحقيق أهداف عسكرية، ما سر صمت موسكو؟

 

باختصار.. السؤال الأكبر

يدرك أي عاقل أن هذا الهجوم أعدّ له عملياً ولوجستيا خلال عدة أشهر، وبكميات كبيرة من الأسلحة والمعدات وأعداد هائلة من المسلحين تحتاج إلى تجهيز وإمدادات، من الواضح تماماً أن تركيا قدمت جميع الأمور التنفيذية العملية، وقدمت إسرائيل والولايات المتحدة المعطيات اللوجستية وحتى الإحداثيات على الأرجح، فقد بدأ الهجوم بقصف واسع بالمسيرات.

الهدف إذاً هو نسف كل ما تم التوصل إليه، وإعادة سورية إلى الحرب الأهلية، وبالأحرى إلى الحرب الواسعة مع الإرهابيين التكفيريين لإجبار الرئيس السوري على الإذعان للمطالب التركية، مع خسارة أوسع في المجال الجغرافي أي أن العملية تهدف إلى أجبار سورية ومعاقبتها، من هنا ليس غريباً أن تتحدث معظم التحليلات عن احتمال أن تكون هذه العملية تمهيداً لبداية فرض التقسيم جغرافيا، بعد أن كرس عملياً لسنوات عديدة إطار ما يسمى (مناطق النفوذ)… وتتضمن أيضا إشارة إلى ترامب من أردوغان بهدف تحسين العلاقة معه، والإيحاء بأنه يستطيع أن يكون حليفاً ممتازاً، ويساهم في إبعاد إيران عن سورية ما يضمن لترامب بأن علاقة أنقره ستتحسن مع إسرائيل… حسنا أين هو السؤال الأكبر؟

 

السؤال الأكبر ما هي التوقعات؟ وكيف ستكون الأمور؟

باختصار هذا السؤال متروك للميدان، والناس تعلق آمالها على مدى قدرة الجيش السوري مع الحليف الروسي على استعادة مدينة حلب وبعض المناطق الأخرى، وتتساءل: إن تحقق ذلك حقاً فبأي ثمن سياسي وبشري؟ سياسي بمعنى هل ستقبل تركيا بأن يكون تحركها عبر عشرات آلاف المسلحين التابعين لها وبرعايتها بلا مكافأة؟ هل ستتغير خطوط التماس؟ وهل ستتمسك أنقرة ببعض المناطق التي سيطر عليها المسلحون لتساوم بقوة أكبر القيادة السياسية في دمشق؟ ثم أليس صحيحا أن أنقرة تقوم بمثل هذه الأعمال التي تعتبر في نهاية المطاف ضد المصالح الروسية نفسها كونها تدرك أنه ليس من مصلحة موسكو في ظرفها الحالي التخاصم مع تركيا بحال من الأحوال؟ والثعلب يدرك ذلك!

العدد 1140 - 22/01/2025