مفاتيح القدس ظلّت تذكاراً في حقائبنا القديمة
وعد حسون نصر:
كان محور حياتنا منذ زمنٍ بعيد نحن العرب هي النضال من أجل الحق المسلوب عسى أن تعود فلسطين لنا. وفي الدين كانت العبارة التي تتكرر بعد كل صلاة: إن شاء الله في الأقصى جمعاً، وفي بيت لحم نقرع الأجراس فرحاً!
فلسطين قضية العرب أجمعين، ولها نطلب السلام، وشعارنا الأرض مقابل السلام. مفاتيح البيوت مازالت في حوزة أصحابها فالأمل بالعودة كبير. خريطة فلسطين تزيّن جدران بيوتنا لكيلا ننسى أنها عربية وأنها جزء لا يتجزأ من الوطن العربي. هي بلاد الشام في دمشق الياسمين، وفي بيروت الأرز، في عمان الزيتون وفي القدس الليمون. بلاد الشام أربع بلاد، أربعة مواسم، أربعة فصول، فكيف لنا أن نلغي منها فصلاً ونحرم أنفسنا من لذة طعم الليمون؟ أخبار الظهيرة ونشرة الأخبار المسائية لا بدّ أن نسمعها عبر صوت القدس من فلسطين، نجلس وكلنا شغف لنعرف ما حال الأهل هناك.
أمّا الآن، وبعد أن اشتدّت علينا الأزمات والمحن، بعد أزمة دمّرت كل أحلامنا وجعلتنا غرباء في أرضنا، مُهجّرين داخل البلاد وخارجها، فقد باتت مشاعرنا محصورة بالوطن. أصبحنا نفتح المذياع لنعرف ما إذا كُنّا ما زلنا بخير. أشقاؤنا العرب من بيروت إلى اليمن حالهم حالنا وهمّهم بناء أوطانهم المُدمّرة. وباتت غزة والقدس تُصارعان الموت بمفردهن!! فدمشق تُلملم جراحها وتُرمِّم ما خلّفه الزمن من دمار وألم. بيروت غدت ركاماً، ومازالت تنفضُ عن أكتافها الأنقاض، واليمن يبحث عن قوته بعد أن أحرقوا محصوله وجعلوا أرضه قاحلة تصفر بها صافرات الإنذار تُحذّر من غارات وحمم. وأما الخليج، فإنه يخشى أن يخسر أبراجه ويعود إلى زمن الخيم!! حتى أولى القبلتين لم يعد جهادها من أجل وطن وقضية، بل باتت تعمل لبناء المسارح ومواكبة الزمن، فلربما تصبح هوليود أخرى على أرض السعودية!!
لم تعد قضية الأرض مقابل السلام تشغل حكّام العرب، لأنها غدت مبدأ عند البعض ممّن حمل فكر الثورات وقرأ التاريخ وعلق الكوفية، وبلحظة سُـكر يُنشِدُ قصيدة عبثية وينثر دخان سجائره الحمراء الطويلة في أركان الغرفة المنسية تضامناً لبضع ساعات، ريثما يصحو من الثمالة ويعود إلى همومه: سوري يبحث عن رغيف الخبز المُغمّس بالقهر وبضع قطرات من الوقود يدفئ بها حطام عظامه علّها تُمكِّنه أن يسير من المقهى إلى باب المنزل!
بالتأكيد إن قضيتنا شغلتنا عن من هم حولنا، وبتنا نتعاطف مع أطفال غزة عبر الشاشات، بإشارة الإعجاب والوجه الحزين، وبعدها نبكي أنفسنا لأنّنا أكثر تشرّداً وغربة في وطننا الضائع بين طبقتين، الضائع بالمبادئ والمبرّرات، ربما الدمار في منزلنا جعلنا لا نرى دمار من حولنا، ولأننا سوريون نبحث عن الأمان وعن السلام، عن الحياة والمأوى، عن الخبز وعن السَّمَر، عن الوقود والمواصلات والدواء والثياب والعمل، نبحث عن الطموح المدفون بالقهر، أضعنا طريق القدس وسقطت مفاتيح البيوت بباطن الأرض بعد زلزالنا الذي زاد وجعنا وجعاً، وزاد الركام حولنا، فلا يمكن لميت أن يحمل ميتاً، ونحن أموات منذ ثلاثة عشر عاماً، لذلك بات تعاطفنا مُغمّساً بقضيتنا، وبقية مفاتيح القدس ظلّت تذكاراً في حقائبنا القديمة.