حكومة جديدة بحلّة ماكرونية: فرنسا تواصل الهروب إلى الأمام
عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مساء السبت، حكومة جديدة لإدارة البلاد الغارقة في أزمات سياسية مستمرة، سواء على الأراضي الفرنسية أو في مستعمرات ما وراء البحار. ويسعى ماكرون جاهداً إلى استعادة زمام المبادرة السياسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة المتبقية من ولايته، وذلك بعد أحد عشر أسبوعاً من فوضى غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الخامسة، أعقبت انتخابات عامة مبكرة دعا إليها في حزيران الماضي لم تكن حاسمة بأي شكل، وأنتجت برلماناً منقسماً من دون غالبية. كما تواجه فرنسا تحديات من قبل تيارات استقلالية في كل من كاليدونيا الجديدة وجزيرة المارتينيك (البحر الكاريبي)، وهي الأقاليم الموروثة من عهد الإمبراطورية. وسيتولى السياسي اليميني العتيق، والممثل السابق عن بروكسيل في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، ميشيل بارنييه، منصب رئيس الوزراء، بعدما أتى تكليفه بتشكيل الحكومة من قبل الرئيس الفرنسي قبل أسبوعين، ليشكل نقلة خارج العرف السياسي في البلاد، بالنظر إلى أنه لا يمثل أياً من الكتل التي تمتلك أكبر تمثيل في الجمعية الوطنية (مجلس النواب). وينتمي بارنييه إلى (الحزب الجمهوري) اليميني المحافظ الذي تدعمه كتلة من 47 نائباً من أصل 577، وحلّ رابعاً بعد (الجبهة الشعبيّة الجديدة) (يسار الوسط) وتحالف (النهضة) – الوسط، و(حزب التجمع الوطني) – أقصى اليمين.
وكان ماكرون قد أثار غضب اليسار الفرنسي، صاحب الكتلة الأكبر في الجمعية الوطنية، بعدما رفض تسمية لوسي كاستيتس – من (الحزب الاشتراكي) – لتشكيل الحكومة رغم انخراطهما معاً في جبهة جمهوريّة تكتيكية خلال الجولة الثانية من الانتخابات العامة الطارئة، لإبعاد شبح فوز (التجمع الوطني) اليميني المتطرف بالغالبية، وبالتالي توليه السلطة على الشؤون الداخلية في الجمهورية. واعتبر ماكرون أن مرشحاً عن (الجبهة الشعبية الجديدة) – وهي تحالف انتخابي يضم (الخضر) و(الاشتراكيين) و(الشيوعيين) و(حزب فرنسا العصية) – لن يكون قادراً عن الحصول على ثقة تلاوين اليمين في البرلمان: من أقصاه إلى الوسط. ومن بين الوجوه الجديدة في المناصب الوزارية الرئيسية وزير الخارجية جان نويل بارو – وسط -، وبرونو ريتايلو في وزارة الداخلية – يمين محافظ -، وسيباستيان ليكورنو، حليف ماكرون المقرّب، والذي احتفظ بمنصبه في الحكومة السابقة وزيراً للدفاع، فيما عهد بحقيبة المالية إلى أنطوان أرماند الذي شغل سابقاً منصب رئيس لجنة الشؤون الاقتصادية في الجمعية الوطنية. وستكون المهمة الرئيسية الأولى لحكومة بارنييه، تقديم خطة ميزانية 2025 لمعالجة الوضع المالي المتردي لفرنسا، والذي وصفه رئيس الوزراء الجديد، الأسبوع الماضي، بأنه (خطير جداً)، ولكن من المرجح الآن أن تواجه اقتراحاً فورياً بحجب الثقة من قبل كتلة اليسار في الجمعية الوطنية.
ويراهن ماكرون، على ما يبدو، على دعم ضمني من قبل كتلة أقصى اليمين لحكومة بارنييه، بحكم أن حزب (التجمع الوطني) أقرب موضوعياً إلى حكومة يمينية منه إلى حكومة يقودها مرشح يساري. وأثارت هذه المراهنة اتهامات لماكرون بالميكافيلية السياسية، إذ كان قد دعا إلى الانتخابات العامة المبكرة بزعم الحرص على منع وصول (التجمع الوطني) إلى السلطة، بعدما انتزع الأخير انتصاراً صريحاً على حزب (النهضة) الذي يدعمه الرئيس في الانتخابات البرلمانية الأوربية (حزيران الماضي)، وها هو يهمش الكتلة الفائزة بثقة أكبر عدد من الفرنسيين لمصلحة تحالف لن يحكم من دون تأييد (التجمع) تحديداً.
على أن مطلعين على المداولات داخل (التجمع) يقولون إن مَيْلَ ماريان لوبان، زعيمة الحزب وابنة أحد مؤسسيه، إلى محض ماكرون دعماً مؤقتاً يسمح لحكومة بارنييه بالبقاء على قيد الحياة، يتعارض مع توجهات غالبية قواعد الحزب، ما يفسّر مسارعة جوردان بارديلا، الرئيس الرسمي لـ(التجمع)، إلى إدانة تشكيل الحكومة الجديدة باعتباره يمثل (عودة إلى (الماكرونية))، وبالتالي (ليس لها مستقبل على الإطلاق). وكانت لوبان قد لمّحت إلى عدم الاعتراض على رئاسة بارنييه للوزراء، ولكنها احتفظت بالحق في التراجع في أي وقت إذا لم تتم تلبية مطالب حزبها بشأن الهجرة، والأمن، وقضايا أخرى.
على الجانب الآخر، وفيما سُجلت تظاهرات شعبية ضد بارنييه، في شوارع باريس ومارسيليا وعدة مدن أخرى للسبت الثاني على التوالي، وصف جان لوك ميلانشون زعيم حزب (فرنسا العصيّة) – أقصى يسار الوسط – التشكيلة الجديدة بأنها (حكومة تدوير الخاسرين في الانتخابات العامة)، وقال إن فرنسا يجب أن (تتخلص) من هكذا حكومة (في أقرب وقت ممكن). كما قاد ميلانشون بنفسه تظاهرة حاشدة في مرسيليا (جنوب البلاد)، دعت إلى استقالة ماكرون وبارنييه معاً. وكانت لجنة خاصة في الجمعية الوطنية قد قبلت، الثلاثاء الماضي، من حيث الشكل، اقتراحاً تقدّم به نواب (فرنسا العصيّة) للشروع في إجراءات لعزل ماكرون، وقالت إنه سيعرض على اللجنة القانونية قبل طرحه للتصويت من قبل النواب. وتعد تلك سابقة؛ إذ لم تشهد الجمهورية الفرنسية الخامسة منذ تأسيسها في 1958، تحدياً لمنصب الرئاسة يصل إلى هذا الحد.
وعلى كل حال، فإن حكومة بارنييه، حتى لو نجت من اقتراح يساري بحجب الثقة، ستظلّ، بحكم واقع تشتت البرلمان، إدارة أقلية، وستواجه صعوبات حتى في التوافق ما بين مكوناتها، ناهيك بحاجتها إلى دعم أحزاب المعارضة لتمرير مشاريع القوانين حالة بحالة، ما يعني الكثير من المناورات وتقديم عدد من التنازلات. ويقول ثلاثة أرباع الفرنسيين، في استطلاع للرأي، إن حكومة بارنييه لن تعمر طويلاً؛ ولذلك، فهي إن بقيت لبعض الوقت، ستظل تلفيقاً ماكرونياً مؤقتاً، ولن تكون حلاً حقيقياً للفوضى التي خلقها الرئيس ببهلوانياته السياسية المتلاحقة، وأقرب إلى صيغة هروب إلى الأمام.
وتواجه فرنسا، بالفعل، تحديات مفصلية في السياسة والاقتصاد، كما تواجه تفشياً للجريمة، وتردياً في مستويات معيشة الأكثرية، فيما تتقاطع جهات عدّة على ضرورة إسقاط التعديلات التي فرضها ماكرون على قانون التقاعد من خارج البرلمان عبر حيلة دستورية. كذلك، ثمة فوضى متزايدة في أقاليم ما وراء البحار؛ إذ قُتل (الأربعاء) شخصان من السكان المحليين في كاليدونيا الجديدة بنيران القوات الفرنسية بعد مواجهة في الجزيرة الواقعة في المحيط الهادئ، والمطالبة بنيل الاستقلال عن حكم باريس – ليرتفع عدد القتلى هناك منذ اندلاع الانتفاضة في أيار الماضي إلى 13 شخصاً حتى الآن -. وفي الوقت نفسه، تم فرض حظر التجول على جزيرة المارتينيك في البحر الكاريبي بعد اندلاع أعمال شغب واسعة بسبب ارتفاع الأسعار، أضرم المحتجون خلالها النار في مطعم أمريكي بالجزيرة (ماكدونالدز)، فيما قالت السلطات الفرنسية إن أحد عشر رجل شرطة أُصيبوا خلال المواجهات.
وبالعودة إلى باريس، ترددت إشاعات عن أن ماكرون قد تفاهم بالفعل مع برنارد كازنويف، رئيس الوزراء الاشتراكي في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند، ليكون خلفاً لبارنييه في حال تمّ إسقاطه. لكن معظم الفرنسيين على قناعة متزايدة بأن ذلك لن يكون سوى مدعاة لتوسيع مدى فوضى أطلقها ماكرون، ولن تنتهي إلا برحيله عن المنصب، سواء بالعزل، أو بالاستقالة، أو حتى بتمرير الوقت حتى نهاية ولايته.
عن (الأخبار)