مأساة غزة ووجع أطفالها
د. صياح فرحان عزام:
مأساة قطاع غزة كبيرة جداً، إلا أن آثارها حتى إذا توقفت حرب الإبادة ضده، ستعيش طويلاً في النفس.
الأجيال الفلسطينية التي تتوارث النكبة تميزت ببلاغة خاص بالقضية، تمكنها من الصراخ بآلامها وفضح العجز الدولي عن حلها في كل المنابر، إلا أن هذه الميزة مهدّدة بالفقدان.
قد لا يعيب الفلسطيني على أخيه العرب صمته في المستقبل عن نصرته، ولو بأضعف الإيمان، لأن صاحب القضية الأول قد يكون أخرس، أو متلعثماً إذا أسعفه الحظ بالإفلات من ويلات غزة وغيرها من أرجاء فلسطين وبقية مساحات الأسى في المنطقة العربية.
لقد قيل الكثير في تأثيرات الحرب على الأطفال في فلسطين، وتكاد صور مأساتهم الخاصة وتفرقهم بين التشريد والاستهداف المباشر وفقدان الأهل تدخل دائرة الاعتياد من كثرة التكرار والإعادة.
ورغم ذلك لايزال في جعبة الطفل الفلسطيني ما يفجع، ولايزال في واقعه ما هو أبلغ من الكلام.
لم يعد الطفل الفلسطيني في غزة مطارداً بالإصابة والتشرد واليتم والموت، إنه على أعتاب صمت قد يكون أبلغ ما ينطق بوجعه التاريخي، وأفصح من كل الذين يشاطرونه فصول مأساته.
تقول الأمم المتحدة إن الخوف والقلق في قطاع غزة يلقيان أطفاله في مشكلات النطق، بل إن بقية الفئات ماضية إلى هذا المصير، وكأن الفلسطيني مجدداً أمام فقدان أحد حقوقه وأقلها، وهو الصراخ باسم قضيته.
وتقول إحصائيات لمنظمة الأمم المتحدة صدرت مؤخراً إن ستة من كل عشرة أطفال في أحد مخيمات دير البلح يصعب عليهم النطق فيتلعثمون، كما تنقل الأمم المتحدة عن مختصة أن الطلب على خدماتها يتزايد.
تردد كثيراً حتى الآن إن إعادة إعمار قطاع غزة تتطلب عقوداً، لكن الأمر لا يتعلق بالمباني والبنى التحتية فقط، فقد أصبح هناك إجماع وشبه إجماع على أن استعادة روح إنسان القطاع بحاجة إلى أضعاف ما يتطلبه العمران.
لقد حذر كثيرون من آثار ما يجري في غزة وفلسطين عامة على الأطفال، من حيث إلقائهم في دائرة النار التي تحرق المستقبل، ولدرجة أنهم حذروا من (شيب قبل الأوان) يغزو أرواح أجيال محرومة من أبسط الحقوق، لكن أحداً لم يتوقع عجزاً عن مجرد الكلام!
حين تتوقف الحرب على غزة، وينجلي غبارها، سيتجلى عدد من فقدوا القدرة على النطق في غزة من الصغار والكبار، أو من يشتت التلعثم قدرتهم على تكملة الحديث عما جرى ويجري، وهو هذه المرة أكبر من قدرتهم على الاحتمال والصراخ.
يبدو كأنه أطفال المأساة في غزة يبادلون العالم صمته وعجزه عن وقفها، لعلهم يراهنون رغماً عنهم على أن صمتهم عن الكلام يجري أكثر مما يتردد على الشاشات من تظاهرات وتحليلات الخبراء الاستراتيجيين والعالمين ببواطن الأمور وظواهر القضية ونقاشات تبادل التهم والتنظير والتخوين.
باختصار.. إن من أخرستهم المأساة ينتظرون صامتين معجزة تنقذهم منها.