مجزرة تلو الأخرى.. ومجتمع دولي عاجز ودول غربية كبرى متواطئة

د. ماهر الشريف:

بينما بلغ التوتر في المنطقة أشدّه، وتضاعفت المخاوف من اندلاع حريق شامل بعد قيام إسرائيل باغتيال القائدين إسماعيل هنية وفؤاد شكر في أواخر شهر تموز (يوليو) الفائت، ووعدت إيران وحزب الله بالانتقام لاغتيالهما؛ وبينما دعت الدول الثلاث الوسيطة في المفاوضات في 8 آب (أغسطس) الجاري إلى استئناف المحادثات غير المباشرة، في 15 من هذا الشهر، بغية التوصل إلى وقف لإطلاق النار وإلى صفقة لتبادل المحتجزين الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية، فجر يوم السبت في 10 آب (أغسطس) الجاري، مدرسة التابعين الشرعية، الواقعة في وسط مدينة غزة، ما أدى إلى استشهاد نحو مئة من مئات المهجرين الذين نزحوا إليها، معظمهم من النساء والأطفال، وذلك في هجوم اعتُبر من الأكثر دموية منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وقال المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل، إن عدة غارات (استهدفت طابقين من مدرسة التابعين القرآنية والمصلّى المجاور بثلاثة صواريخ)، وأضاف أن (العشرات من الأشخاص أصيبوا، بعضهم في العناية المركزة، وهناك العديد من الأشلاء مجهولة الهوية ومن المفقودين).

 

مدارس إيواء المهجرين تشهد مجزرةً تلو مجزرة

تهدف حكومة الحرب الإسرائيلية من وراء ارتكاب مجزرة تلو مجزرة إلى دفع سكان القطاع المنكوب إلى ترك وطنهم؛ وهي باستهدافها المدارس، تريد أن تحول دون استئناف العملية التعليمية بعد انتهاء حربها ونشر التجهيل بين صفوف الفلسطينيين، كما هي تريد، بتدمير منشآت وكالة الأونروا في إطار حملتها المناهضة لهذه المنظمة الدولية، تصفية حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة.

صارت المدارس غالباً مراكز يلجأ إليها الغزّيون هرباً من عمليات القصف الجوي والمدفعي التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حروبه المتكررة على قطاع غزة؛ بيد أن هذه المدارس، التابعة في كثير من الأحيان لوكالة الأونروا، لم تكن تسلم من عمليات القصف والتدمير. ففي 30 تموز (يوليو) 2014، وخلال حربه على القطاع، شن الجيش الإسرائيلي هجوماً ليلياً على مدرسة جباليا الابتدائية، التي كانت تؤوي أكثر من 3000 مدني مهجّر، وهو ما اعتبرته منظمة العفو الدولية (جريمة حرب ويجب التحقيق فيها بصورة مستقلة)، وذلك بعد أن خلّف ذلك الهجوم (ما لا يقل عن 20 قتيلاً وعشرات الجرحى في هذه المدرسة الواقعة في مخيم جباليا للاجئين المكتظ بالسكان). ولاحظت منظمة العفو الدولية أن (هذا هو الهجوم السادس على مدرسة تابعة للأمم المتحدة في غزة منذ إطلاق عملية (الجرف الصامد) في 8 تموز (يوليو) 2014)، وأضافت أن القوات الإسرائيلية استخدمت (هذا النوع من التكتيك غير المسؤول في الماضي، ولا سيما خلال عملية (الرصاص المصبوب) في الفترة 2008-2009، والتي قُتل خلالها حوالي 1400 فلسطيني، معظمهم من المدنيين.

بعد أن أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي، منذ 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أوامره الأولى إلى سكان المناطق الشمالية من قطاع غزة بالنزوح نحو الجنوب، وهي الأوامر التي تكررت مراراً وتكراراً طوال هذه الأشهر العشرة من الحرب، لم تتوقف عمليات التهجير التي طالت أكثر من 1.9 مليون فلسطيني وفلسطينية، من مجموع حوالي 2.3 مليون نسمة يقيمون في قطاع غزة. وقد لجأ عددٌ كبير من هؤلاء المهجرين الفلسطينيين إلى المدارس، التي تركها تلامذتها وتحوّلت إلى مراكز لإيواء المهجرين، وصارت أهدافاً لجيش الاحتلال، بذريعة وجود مقاومين فلسطينيين فيها.

فبعد قيامه بقصف مدرسة التابعين الشرعية، استعاد الجيش الإسرائيلي الأسطوانة المشروخة القائلة إن (إرهابيين) يختبئون في مراكز إيواء المهجّرين ويحضّرون فيها هجماتهم، مشيراً في تغريدة على موقع إكس (تويتر سابقاً) إلى أن (المدرسة والمصلى كانا بمثابة منشآت عسكرية لحماس والجهاد الإسلامي، ويستخدمان لتنفيذ هجمات إرهابية)، وزاعماً أنه استهدف عدداً من المقاومين الفلسطينيين فيها. وهو الزعم الذي استغربه العديد من المحللين، الذين تساءلوا: (كيف يمكن للجيش الإسرائيلي القادر على إطلاق صاروخ موجّه عن بعد على غرفة في مبنى قائم في طهران كان ينزل فيها إسماعيل هنية ويقتله هو ومرافقه فقط، ولا يستطيع أن يوجّه مثل هذا الصاروخ بحيث يستهدف فقط من يعتبرهم إرهابيين في المدرسة، عوضاً عن أن يلقي صواريخ يزن الواحد منها طناً تقضي على العشرات من المدنيين!!). أما المقررة الخاصة للأمم المتحدة، المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، فلم تكن في حاجة إلى مثل هذا التساؤل، بل اتهمت إسرائيل صراحة في تغريدة على موقع إكس بارتكاب جريمة جديدة من جرائم الإبادة الجماعية، وكتبت: (إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية للفلسطينيين، فهي تستهدف حيّاً تلو الآخر، ومستشفى تلو الآخر، ومدرسة تلو الأخرى، ومخيماً للاجئين تلو الآخر، ومنطقة إنسانية تلو الأخرى). بينما كتب رئيس الدبلوماسية الأوربية، جوزيب بوريل، في تغريدة على الموقع نفسه: (أشعر بالفزع من صور مدرسة في غزة كانت تستخدم ملجأ، وقد تعرضت لضربة إسرائيلية أوقعت عشرات الضحايا الفلسطينيين)، وأضاف: (لقد تم استهداف ما لا يقل عن 10 مدارس في الأسابيع الأخيرة، ولا يوجد أي مبرر لهذه المجازر).

 

وكالة الأونروا تصرخ وما من مجيب!!

منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، قالت وكالة الأونروا (إن ستة أشخاص على الأقل كانوا يحتمون بمدرسة تديرها الوكالة في مخيم المغازي للاجئين الفلسطينيين قتلوا في غارة إسرائيلية)، إذ (لجأ ما لا يقل عن 4000 شخص إلى مدرسة الأونروا هذه التي أصبحت ملجأ)، وأضافت: (أن عشرات الأشخاص أصيبوا أيضاً وأن عدد القتلى أعلى بالتأكيد). ورداً على سؤال لوكالة فرانس برس، قال الجيش الإسرائيلي إنه (يتحقق من هذه المعلومات). وفي 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، وبعد قيام جيش الاحتلال بقصف مدرسة (الفاخورة) التابعة لوكالة الأونروا في مخيم جباليا، التي كانت تؤوي مهجرين، ما أسفر عن استشهاد نحو خمسين منهم. ندد المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليب لازاريني، بالضربات (المروعة) على المدارس التي تؤوي النازحين في قطاع غزة، وكتب على موقع إكس: (إننا نتلقى صوراً مروّعة للعديد من الوفيات والإصابات مرّةً أخرى في مدرسة تابعة للأونروا كانت تؤوي آلاف النازحين في شمال قطاع غزة)، وأضاف: إن هذه الهجمات يجب أن تتوقف، ولم يعد من الممكن تأجيل وقف إطلاق النار الإنساني). وفي 7 حزيران (يونيو) 2024، وبعد أن شنت الطائرات الإسرائيلية غارة جوية على مدرسة السردي الإعدادية في مخيم النصيرات، التابعة لوكالة الأونروا، والتي تحوّلت التي مركز لإيواء فلسطينيين مهجرين، ما أدى إلى استشهاد ما لا يقل عن 33 شخصاً، من بينهم 12 امرأة وطفلاً، كتب فيليب لازاريني في تغريدة على الموقع نفسه: (إن 6000 شخص كانوا يحتمون بالمدرسة عندما تعرضت للقصف من دون سابق إنذار)، وأضاف أن الوكالة (لم تتمكن من التحقق من صحة المزاعم بوجود جماعات مسلحة في داخل المدرسة). وفي 10 تموز (يوليو) 2024، وبعد أن استهدف جيش الاحتلال بالقصف أربع مدارس تؤوي مهجرين، أعلن فيليب لازاريني أن ثلثي مدارس الأونروا في قطاع غزة تأثرت بالحرب الإسرائيلية، إذ تعرض بعضها (للقصف)، وتعرض العديد منها (لأضرار بالغة)، وأضاف: (وهكذا انتقلت المدارس من أماكن آمنة للتعليم والأمل للأطفال إلى ملاجئ مكتظة… وغالباً ما تصبح في نهاية المطاف أماكن للموت والبؤس)، مقدّراً أن غزة (ليست مكانا للأطفال)، وأنه يجب (وقف إطلاق النار الآن قبل أن نفقد ما تبقّى من إنسانيتنا المشتركة). وعندما أدرجت الأمم المتحدة قوات الجيش والأمن الإسرائيليين، في 12 حزيران (يونيو) الفائت، في (القائمة السوداء) للأطراف التي ارتكبت (انتهاكات جسيمة) ضد الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة خلال سنة 2023، عبّر السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، عن (صدمته واشمئزازه) من القرار، وأكد، بكل صفاقة، في بيان صحفي: (أنتم تعلمون أن الجيش الإسرائيلي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم!.

 

مجتمع دولي عاجز ودول غربية كبرى متواطئة

في 29 أيار (مايو) 2024، وافق الكنيست الإسرائيلي بالقراءة الأولى على مشروع قانون يصنّف وكالة الأونروا (منظمة إرهابية)، كما أقرّ مشروع قانون آخر، حظي بقراءة أولية، يهدف (إلى قطع جميع العلاقات مع وكالة الأمم المتحدة وتجريدها من الإعفاءات المختلفة)؛ وهذان المشروعان لن يمنعا وكالة الأونروا من العمل في إسرائيل فحسب، بل (سيجرّمان) أيضاً المنظمة وأنشطتها وموظفيها. وفي اليوم التالي، قررت الحكومة الإسرائيلية طرد وكالة الأونروا من مقرها في القدس الشرقية المحتلة، علماً بأن مباني الوكالة في المدينة مغلقة منذ 10 أيار (مايو) الماضي بعد هجوم شنّه عليها مستوطنون إسرائيليون وحاولوا إحراقها، بينما كانت الشرطة حاضرة، بحسب شهود عيان، لكنها لم تتدخل. وتم إلقاء الحجارة على موظفي الأمم المتحدة الذين جاؤوا لإخماد الحريق، وقال جوناثان فاولر، رئيس الاتصالات بالأمم المتحدة، لوسائل الإعلام: هناك شعور بأن هذا النوع من السلوك تم تشجيعه وتحريضه من خلال الخطابات التحريضية؛ ولذلك فإننا ننتقل من الخطاب الحارق إلى النيران الحقيقية في غضون أيام قليلة.

في 30 أيار (مايو) الماضي، نشر المفوض العام لوكالة الأونروا فيليب لازاريني مقال رأي في صحيفة (نيويورك تايمز)، قدّر فيه أن الحرب في غزة كشفت (عن ازدراء صارخ لمهمة الأمم المتحدة يشمل هجماتٍ مشينة على موظفي وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ومنشآتها وعملياتها)، وأكد أن (هذه الاعتداءات يجب أن تتوقف، ويجب على العالم أن يحاسب مرتكبيها)، وكتب: (أكدت وكالتنا مقتل 192 موظفاً على الأقل من موظفي الأونروا في غزة، كما تعرض أكثر من 170 مبنى تابعاً للأونروا للأضرار أو للتدمير؛ وعلاوة على ذلك، هُدمت مدارس تديرها الأونروا، وقُتل نحو 450 نازحاً أثناء لجوئهم إلى مدارس الأونروا وغيرها من المباني؛ ومنذ 7 أكتوبر، اعتقلت قوات الأمن الإسرائيلية موظفين تابعين للأونروا في غزة قالوا إنهم تعرضوا للتعذيب وسوء المعاملة أثناء احتجازهم في القطاع وفي إسرائيل، كما يتعرض موظفو الأونروا للمضايقات والإهانات بشكل منتظم في نقاط التفتيش الإسرائيلية بالضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية). وأضاف المفوض العام لوكالة الأونروا في مقاله: (ولهذا، يجب على العالم أن يتعامل بحزم مع الهجمات غير المشروعة التي تستهدف الأمم المتحدة، ليس فقط من أجل غزة والفلسطينيين ولكن من أجل جميع الدول… والواقع أن المجتمع الدولي لديه وسائل للتعامل مع ارتكاب جرائم دولية من قبيل (المحكمة الجنائية الدولية)، غير أن حجم الهجمات التي استهدفت موظفي الأمم المتحدة ومبانيها في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال السبعة أشهر الماضية ونطاقها يستحقان إنشاء هيئة تحقيق خاصة ومستقلة، من خلال قرار من مجلس الأمن أو الجمعية العامة، للتأكد من الحقائق وتحديد المسؤولين عن الهجمات التي تستهدف وكالاتها، إذ يمكن لهيئة من هذا القبيل أن تضمن المساءلة، والأهم من ذلك، أن تساعد على إعادة تأكيد حرمة القانون الدولي؛ ولهذا، علينا أن ندافع بقوة عن مؤسسات الأمم المتحدة والقيم التي تمثّلها، قبل التمزيق الرمزي لميثاق الأمم المتحدة المؤسس، ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال عمل دول العالم وفقاً للمبادئ والتزام الجميع بالسلام والعدالة).

بيد أن دول العالم الكبرى، وخصوصاً الغربية منها، التي من المفترض فيها أن تعمل، أكثر من غيرها، من أجل حماية ميثاق الأمم المتحدة، والالتزام (بالسلام والعدالة)، والقادرة على ردع حكومة الحرب الإسرائيلية وإجبارها على وقف حربها على القطاع المنكوب، لا تفعل شيئاً في هذا الاتجاه، بل إنها تتواطأ مع العدوان الإسرائيلي عندما تتبنى الرواية الإسرائيلية بأن المقاومة الفلسطينية تستخدم المدنيين (دروعاً بشرية)، أو عندما تكرر مقولة أن من (حق) إسرائيل الدفاع عن نفسها. فالسيدة كامالا هاريس، نائبة الرئيس جو بايدن ومرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة الأمريكية، وعدت، بعد اجتماعها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن في 26 تموز (يوليو) الفائت، بأنها (لن تبقى صامتة) على (مآسي)، غزة، وتطرقت إلى (معاناة السكان المدنيين الفلسطينيين)، والعقبات التي تحول دون إيصال المساعدات الدولية إليهم، والتي تسببت في (أزمة إنسانية رهيبة)، لكنها عادت وأكدت، بعد ترشيحها للرئاسة، بأنها لا تنوي فرض حظر على الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل، علماً بأن هذه الأسلحة التي تتدفق على إسرائيل منذ عشرة أشهر هي التي تقتل الفلسطينيين وتسبب (مآسيهم)، وحظرها هو وحده الذي يردع حكومة الحرب الإسرائيلية ويفرض عليها وقف إطلاق النار في القطاع. أما ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي، الذي شعر (بالفزع) من صور مدرسة التابعين في غزة بعد قصفها، فهو يكتفي بالتعبير عن هذا (الفزع) اللفظي كلما ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي مجزرة في القطاع، علماً بأن في إمكانه أن يقنع بعض دول الاتحاد بوقف صادراتها من الأسلحة إلى إسرائيل، وأن يسعى من أجل تطبيق الاتفاق الذي أقره وزراء دول الاتحاد بالإجماع، في 27 أيار (مايو) الفائت، والقاضي بمراجعة الاتفاق التجاري بين الاتحاد الأوربي وإسرائيل، بما يضمن (امتثال إسرائيل لالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان).

وهكذا، يجد الفلسطينيون أنفسهم، في مواجهة حكومة إسرائيلية عنصرية تمعن في تقتيلهم، أمام مجتمع دولي عاجز ودول غربية كبرى متواطئة، وليس لهم من خيار سوى لملمة جراحهم النازفة والاستمرار في المقاومة.

 

العدد 1120 - 21/8/2024