عمل يتطلّب الحب

وعد حسون نصر:

العمل الإنساني جهدٌ قائم على حبّ العطاء، وهذا العمل لابدّ أن ينطلق من منابع إنسانية ليصل إلى القلوب جمعاء. العمل الإنساني ينطلق بتجرّد شبه خالص من الأنانية بعطائه اللامتناهي، لا يميّز على أساس طائفة أو لون أو أيَّ طيف أو اختلاف بالرأي ولا وجهات النظر. إنه عمل جواز سفره الشفافية واليد النقية والقلب المفعم بالحب.

نعم، إن العمل الإنساني من أبسط أعمال اللطف، والأقوى بكثير من ألف رأس، فهو إرث تتركه بين الناس، وأفضل طريقة تجد نفسك من خلالها في خدمة الآخرين بلا انتظار مقابل، لتُجسّد فكرة أنه باستطاعتنا مساعدة الآخرين بما يلزمهم من أشياء مادية ملموسة دون أن ننتظر مقابلاً لما نقوم به، وفي الوقت ذاته ومن خلالها نساعد أنفسنا على امتلاك حب العطاء وتجردنا من الأنا. وعليه، يُفترض أن تتمثّل هذه الإنسانية لدينا بمبدأ عدم التضحية بإنسان من أجل غرض أو من أجل مكانة أو وظيفة أو منصب، فهي فقط للعمل من أجل العطاء وغرس الحب والابتعاد عن استغلال الآخرين.

لذلك من الطبيعي أن يجري انتقاء الأشخاص الذين يزاولون مهنة الإنسانية داخل المنظمات من أولئك المعطائين لأجل العطاء، كما يجب أن يكونوا بعيدين كل البعد عن فكرة الظهور وحب الذات وحب القيادة، بل أن يكونوا أنقياء وقلوبهم لا تعرف السوداوية، مُحبّين لمن حولهم لا يعرفون الحقد، ولا يسعون وراء غايات مادية أو أيّة غايات أخرى. أن يتحمّلوا مشقّات العمل التطوعي المُجرّد من كل طموح ذاتي، عمل شعاره فقط العطاء من أجل العطاء. كذلك طبيعة الوجوه، إذ لابدَّ أن تكون العيون برّاقة بالإنسانية والشفاه مرسومة بالضحكة، حتى الكلام والحوار لابدَّ أن يكون صادراً من القلب المحب قبل الفم.

غير أن ما نلمسه اليوم مع الأسف الشديد تكاثر المنظمات الإنسانية مقابل ضحالة الإنسانية الحقيقية فيها، إذ قلَّ العطاء وكثر الأخذ بحجّته! فقد بتنا نرى بعض المسؤولين عن هذه المنظمات يقود أفخم السيارات ويرتدي أغلى البدلات ويأكل أشهى الوجبات، وكأن الإنسانية باتت شعاراً فقط لتلبية حب الذات وإخفاء مطامعها. نعم، لقد كثُرَ الدعاة لهذا العمل وكثُرت التبرعات بينما قلَّ العطاء، وهذا الكلام لا ينطبق فقط على المنظمات المعنية بالعمل الإنساني في الداخل وحسب، بل ينطبق كذلك على المنظمات الإنسانية العالمية، وأكبر مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والمنظمات التابعة للأونروا رغم انتشارها وعملها الإنساني القائم على مساعدة الشعوب الفقيرة القابعة تحت خط الفقر، ومن أهم اتفاقياتها ضمان حقوق الإنسان وحقوق الطفل وعدم التمييز بكل اشكاله. ولكن، رغم كل هذه الأهداف والغايات لتلك المنظمات فإن حصار غزة أكبر وثيقة للممارسة اللاإنسانية التي تطبقها هذه المنظمات على أطفالنا في غزة وعلى كهولنا وشيوخنا ونسائنا، ابتداءً من نقص العطاء والماء والدواء وصولاً إلى كل هذا الخوف والرعب وفقدان الأمن والأمان.. فرغم الإنسانية المُتجسّدة في العمل الإنساني والقائم بحدِّ ذاته على هذه الكلمة، إلاَّ أن البعض من القائمين على منظماتها مُتجرّدين من إنسانيتهم وغائبة عن أرواحهم مُحفّزات العطاء وشغف التخلّي عن الذات!

إن العمل الإنساني بقدر ما يتطلّب منّا جهداً عضلياً فإنه يتطلّب أيضاً جهداً روحياً، جهداً بالحب وبإيصال الضحكة المُنعشة للنفوس المُتعبة، ولكي تكون إنساناً عليك أن تصنع الحب وتجعل روحك سفيرة الإنسانية، ويداك سفيراً للعطاء وعيناك سفيراً للكلمة قبل أن تتحرّك شفتاك.. هنا فقط أنت إنسان مجرّد من الأنا مجبولٌ بالعطاء.

العدد 1120 - 21/8/2024