قلق فلسطيني من ضوء أخضر أمريكي لتهجير أهالي غزة

يبدي البعض إعجابهم بما يرونه (تبدلاً) في الموقف الأمريكي الداعي لتغيير آلية العمل العسكري في قطاع غزة وتخفيف حدة القصف، ويعدّونه (انقلاباً) على الرغبة الإسرائيلية في مواصلة العمليات بالوتيرة ذاتها، بينما يتشكك البعض الآخر فيما وراءه.

تمثل هذا (التبدل) في تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الذي أكد لإسرائيل خلال أحدث زيارة لها ضرورة الانتقال خلال أسابيع إلى مرحلة تالية من الحرب تكون (أقل حدة).

والموقف ذاته أكده الرئيس الأمريكي جو بايدن الأسبوع الماضي، عندما قال خلال كلمة في تجمع انتخابي لجمع التبرعات لحملته إنه يريد أن تنهي إسرائيل عمليتها البرية الواسعة في قطاع غزة في غضون ثلاثة أسابيع أو نحو ذلك، وانتقد حكومتها قائلاً إنها (أكثر الحكومات محافظة) في تاريخ إسرائيل ولا تريد حل الدولتين.

ورغم أن كلمة بايدن كانت بعيداً عن الإعلام الرسمي، وكان الرئيس الأمريكي يتحدث فيها بأريحية، كان البيت الأبيض معنياً على ما يبدو بوصول تفاصيلها إلى الرأي العام الأمريكي والعالمي، خاصة في جزئية انتقاد الحكومة الإسرائيلية وطابعها اليميني المتطرف والتأكيد على أن إسرائيل بدأت تفقد الدعم الدولي بسبب حربها بقطاع غزة.

فالإدارة الأمريكية عادت في اليوم التالي لتسريبات حديث بايدن لتؤكد ما جاء بها. كما قال بايدن رداً على سؤال أحد الصحافيين عما إذا كان يريد من إسرائيل تقليص هجومها على غزة: (أريدهم أن يركزوا على كيفية إنقاذ أرواح المدنيين وأن يكونوا أكثر حذراً، لا أن يتوقفوا عن ملاحقة (حركة) حماس).

وبعد هذه التصريحات المتعددة، تحرك مسؤولون أمنيون أمريكيون نحو إسرائيل لرسم ملامح المرحلة التالية. وبعد زيارة سوليفان، سيصل وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، يوم الاثنين، لبحث تفاصيل المهمة ذاتها التي اتفق مستشار الأمن القومي على خطوطها العريضة.

ويبدو أن كل ما يخرج من دائرة تسريبات غير مقصودة يدخل في دائرة تدحرج مقصود إلى تصريحات تؤسس لواقع المرحلة التالية.

 

الضوء الأخضر

قال إبراهيم خريشة، مندوب فلسطين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لـ(وكالة أنباء العالم العربي) إن من ينتقد الحكومة الإسرائيلية وقصفها غزة (لا يقف مشرّعاً سلاح حق النقض (الفيتو) في وجه قرار إنساني يدعو لوقف قتل الناس الأبرياء وتحقيق هدنة إنسانية في غزة).

ويشير خريشة إلى مقتل قرابة 20 ألفاً في غزة، أكثر من نصفهم من النساء، ويقول إن كل القطاع تعرض لتدمير جزئي أو كلي، مضيفاً: (أمريكا ما زالت تعطي إسرائيل الضوء الأخضر للاستمرار في جرائمها، بل إن هناك تناقضاً مكشوفاً على صعيد الإدارة الأمريكية في التصريحات… بعض التصريحات معسولة وتنتقد الحرب، وبعضها تؤكد استمرار الحرب).

ويقول إن ما تلقفته إسرائيل هو أن لديها الضوء الأخضر لمواصلة عملياتها.

أما الفلسطينيون فيتطلعون بقلق إلى (الشق غير المعلن)، كما يسمونه، من خطط بعيدة المدى تهدف إلى تهجيرهم بطريقة غير تقليدية من خلال جعل غزة طاردة لأهلها، غير صالحة للعيش فيها.

وقال بعض سكان غزة لـ(وكالة أنباء العالم العربي) إن ما يجري على الأرض من دمار هائل يبرهن على أن القدرة على العيش ستكون معدومة في قطاع مدمَّر.

من ضمن هؤلاء إسلام حامد من مدينة غزة، الذي قال: (لم يعد هناك مكان صالح للعيش في شمال قطاع غزة… الدمار طال كل شيء، ومقومات الحياة تنتهي أو حتى انتهت… فلا غذاء ولا ماء ولا دواء).

وأضاف: (أظن أن ما يجري هو دفع غير مباشر للناس لتقرر بنفسها الخروج من غزة إلى أماكن أخرى في العالم بمجرد أن يُتاح لهم السفر).

 

البعد النفسي

يعد الباحث خلف خلف أن فكرة جعل قطاع غزة غير قابل للعيش ستدفع الفلسطينيين في نهاية المطاف إلى التفكير بشكل جدي في الهجرة إلى خارج القطاع، وليس شرطاً أن يكون ذلك على شكل نزوح.

ونوّه في حديث لـ(وكالة أنباء العالم العربي) إلى أن فكرة دولة إسرائيل قامت بالأساس على عدم وجود فلسطينيين وعلى أن تمتد دولة إسرائيل من النهر إلى البحر.

ويضيف: (إسرائيل تتحدث دوماً عن صراع ديموغرافي وقلق من تفوق سكاني فلسطيني على الإسرائيليين، وبالتالي يظل هذا الهاجس يراود الإسرائيليين بشكل دائم… وما يحدث في غزة يبدو أنه فرصة مثالية لإفراغ القطاع من أهله بطريقة طوعية).

ويؤكد المختص في الشأن الإسرائيلي عزام أبو العدس أن الولايات المتحدة هي شريك مباشر في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، سواء بالتخطيط أو التنفيذ.

وقال لـ(وكالة أنباء العالم العربي): (مصلحة واشنطن ربما تفوق مصلحة إسرائيل في القضاء على المقاومة في قطاع غزة، فالولايات المتحدة لديها الكثير مما تخسره إذا كسبت المقاومة هذه الحرب).

ويستطرد أبو العدس قائلاً إن الأهم مما يحدث حالياً في الميدان هو (البعد النفسي)، مشيراً إلى أن ما قامت به (حماس) في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) يعني أن بإمكان الفصائل في غزة (تحدي أي قوة متعاونة ومتحالفة مع أمريكا).

وأضاف: (ما تخشاه واشنطن أن ينظر العالم العربي إلى المقاومة بصورة المنتصر، وهذا يمكن أن يشكل كسراً للحاجز النفسي لدى الشعوب العربية بأنها يمكن أن تحقق نصراً على المصالح الأمريكية في كل المنطقة، وهو ما يجعل الولايات المتحدة أكثر اهتماماً من إسرائيل بنتائج هذه الحرب).

 

التهجير الطوعي

الدكتور واصل أبو يوسف، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، قال إن إسرائيل وبرعاية مباشرة من الولايات المتحدة لم تُسقط خيار تهجير الفلسطينيين سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية بغض النظر عن الطريقة التي يمكن تهجيرهم بها.

وأضاف لـ(وكالة أنباء العالم العربي) أن إسرائيل تعلن بشكل صريح على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية أن هذه الحرب تشمل (الكل الفلسطيني وليس قطاع غزة فحسب).

وقال: (هذا ينذر بمخاطر كبيرة، وتصريح إسرائيلي رسمي بمنع إقامة دولة فلسطينية… واضح أن أمريكا تؤيد ذلك من خلال سلاح الفيتو في مجلس الأمن الذي تُشهره ضد أي محاولة إنسانية لوقف الحرب).

وتابع: (هناك استهتار أمريكي إسرائيلي بكل المنظومة الدولية)، مشدداً على أن واشنطن وإسرائيل متمسكتان بخطط التهجير بغض النظر عن طريقة تنفيذها.

من الناحية الديموغرافية، ضاقت غزة على سكانها. فمساحة 365 كيلومتراً مربعاً بالمنطق المكاني والزماني لا يمكن أن تتسع لعدد 2.3 مليون نسمة إلا في حال تم تصميم المساحة المكانية على هذا الأساس كما المدن الحديثة في العالم.

لذا فإن خطر (اليوم التالي للحرب) لا يكمن فقط بمن يحكم غزة ولا بمن يدفع التكلفة، بل وفي (هل يمكن لأهل غزة العيش فيها؟).

 

وخلاصة ما يقوله المراقبون والمسؤولون الفلسطينيون أن إسرائيل تعمل بعقلية تجعل غزة (مكاناً طارداً لأهله)، ويشيرون إلى أن إسرائيل لم تعتد يوماً على الحروب طويلة المدى، وإلى أن فكرة تحويل الدول إلى (دول فاشلة) بعد الانسحاب منها هي فكرة أمريكية بالأساس.

ويخشى الفلسطينيون من كلمات علقت في أذهانهم للرئيس الأمريكي عندما قال في المؤتمر الانتخابي ذاته: (لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعنا واحدة)، وهو ما يرسخ مخاوفهم من ترك قطاع غزة أرضاً خالية من مقومات العيش.

(الشرق الأوسط)

العدد 1105 - 01/5/2024