الكوميديا اللبنانية

د. أحمد ديركي:

كتب دانتي الكوميديا الإلهية واصفاً في مؤلفه رحلة (المؤمن) في حياة الآخرة منذ الوفاة إلى لحظة التخلص من كل الخطايا الأرضية ليصل إلى (الفردوس).  وكان المعري قد سبقه إلى هذا في (رسالة الغفران) وإن كان كل منهما كتب من خلفية فكرية مختلفة. فالأول كتب من خلفية الفكر الديني المسيحي، والثاني من خلفية الفكر الديني الإسلامي.

وفي كلتا الحالتين كانت الرحلة (سماوية) لا أرضية، ولكنها تعتمد بشكل أساسي على الحياة (الأرضية) ومجريات أحداثها لتحدد الرحلة (السماوية).

وإذا ما أخذنا مجريات أحداث الرحلة (الأرضية) في لبنان، كما في معظم الدول العربية، لوجدنا أن الرحلة (السماوية) اعتماداً على (الكوميديا الإلهية) أو (رسالة الغفران) معروفة النهاية قبل البدء بتسلسل أحداثها. فمجريات الأحداث (الأرضية) في لبنان تشير جميعها إلى أن لبنان يعيش الانهيار على كل الأصعدة السياسية،

وهذا ليس بقول لمجرد القول، بل موثق من قِبل مؤسسات عالمية حيث يظهر من عنوان تقرير للبنك الدولي مدى حجم الانهيار الذي يعيشه لبنان فعنوان التقرير الصادر عام 2021 (لبنان لبنان يغرق) نحو أسوأ ثلاث أزمات عالمية).  وهناك مثل عربي يقول (الرسالة تقرأ من عنوانها). ويفتتح التقرير بجملة تقول (لعل الأزمة الاقتصاديّة والمالية التي تضرب لبنان من بين الأزمات العشر، وربمّا من بين الأزمات الثلاث، الأكثر حدةً عالمياً منذ أواسط القرن التاسع عشر).  ما يشير إلى عمق الانهيار الذي تعاني منه دولة صغيرة وبتعداد سكاني ضئيل. لا يعني هذا أن البنك الدولي بريء من مسببات هذه الأزمة! ويؤكد الانهيار ما ورد في تقرير صندوق النقد الدولي الذي يصف الواقع اللبناني على النحو التالي: (والتحديات القادمة بالغة الجسامة. فالتدهور المتواصل في الأوضاع الاجتماعية- الاقتصادية بلغ مستويات لا مجال لاستمرارها. والاقتصاد انكمش بالفعل بنسبة 30% تقريباً منذ عام 2017 ومن المتوقع أن يزداد انكماشاً في الفترة 2021-2022. وفقدت الليرة اللبنانية حوالي 90% من قيمتها، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة تكاد تصل إلى عشرة أضعاف منذ أيار 2019. وأصبح معدل البطالة شديد الارتفاع وأكثر من نصف الأسر يعيشون تحت خط الفقر. وإضافة إلى ذلك، لا تزال الجائحة تكبد الاقتصاد والمواطنين خسائر فادحة).

من المتعارف عليه علمياً أن ما من حدث وليد لحظته، بل هو تراكمات تؤدي إلى حدوث الحدث. فعالم الماورائيات المفسر للظواهر بكافة أطيافها المعتمد في قراءاته التفسيرية على (المعجزات) التي تتحكم بها قوى فوق الطبيعة انتهى وسقط هذا الفكر منذ بدايات القرن الثامن عشر، وحل مكانه الفكر العلمي الذي ما زال في حالة صراع مع عالم الماورائيات. فما حدث وما زال يحدث في لبنان من انهيار ليس بوليد لحظة عام 2019، بل هو ناجم عن تراكمات سياسات النظام منذ نشوئه ولغاية عام 2019. سياسات خاطئة على كافة المستويات أدت منذ الاستقلال ولغاية عام 2019 إلى الانهيار. والمضحك المبكي في كل مجريات الأحداث منذ عام 2019 ولغاية الآن، منذ بدايات الانهيار ولغاية الآن، أن السلطة السياسية متلهية في مهاترات سياسية تنتمي إلى الفكر الغيبي لا علاقة لها بمحاولات إيقاف الانهيار بشكل علمي!

من خلال تتبع مجريات الأمور يبدو هذا وضعاً مألوفاً لمعالجة الأمور، لأنها لو كانت هذه السلطة السياسية تتبع الفكر العلمي لا الغيبي لما وصلت إلى ما وصل حال البلاد إليه اليوم. ولكانت هذه السلطة السياسية سقطت عن عرشها المبني على قاعدة الفكر الغيبي وتعميمه على القاعدة الشعبية. ولكن في حالة الانهيار هل يمكن للفكر الغيبي أن يبقى سائداً أم أن هناك مشروعاً آخر يجري التداول به على صعيد المنطقة، أكبر مما يجري في لبنان، ليطبق تحت غطاء الفكر الغيبي الحامل لمبررات اقتصادية، وكأن اللعبة الاقتصادية التي تجري في لبنان لا حل لها إلا اقتصادياً، ولا علاقة للنظام القائم بهذا الانهيار!

فها هي ذي السلطة السياسية تذهب في رحلة (السماء) وفقاً للكوميديا الإلهية، أو رسالة الغفران، كل على هواه، تاركة الشعب على قيد الحياة (الأرضية) يدفع ثمن رحلتها السماوية المتخيلة، من دون أن تعي أن الشعب هو من يقرر متى تنتهي رحلتها.

 

العدد 1104 - 24/4/2024