الواقع المعيش.. وأزمة المعيشة

يونس صالح:

تبدو مظاهر التفكك الاجتماعي في المجتمعات السياسية العربية في تفاقم ظاهرة التفاوتات الاجتماعية الحادة على مستوى الدخل ونمط المعيشة وفرص العمل وطرق الاستهلاك والإنفاق.. وهذه التفاوتات تعاني على مستويين، ما بين طبقات المجتمع في كل بلد عربي، وما بين المجتمعات في البلدان العربية. فإذا كان المشروع النهضوي العربي قد ارتبط بمشروع الوحدة في الفكر والدعوة، ومورس هذا الأخير في الخطاب السياسي والدعوي من خلال استحضار مسلمة (الأمة) في الذاكرة التاريخية العربية، فإن هذه المسلمة اليوم لم تعد مسلمة، لاسيما إذا ما نظر إلى واقع الأشياء نظرة فاحصة.

إن النظر إلى واقع المجتمعات في البلدان العربية يشير إلى تفاقم التنافضات والصراعات داخل المجتمع الواحد، وفيما بين المجتمعات السياسية العربية نفسها، ولا يغير في الأمر كثيراً أو قليلاً ازدياد استخدام مصطلح الأمة في الخطاب القومي أو الإسلامي- كما نلاحظ في الآونة الأخيرة- فلأن الإصرار على استخدام المصطلح في النص كفيل بتخطي التفاقم الذي تسير نحوه حركة التجزؤ في الواقع، وهو إصرار يترجم عجزاً أو هروباً ولا يعبر عن رؤية شفافة لواقع ولا عن استشراف حكيم لمستقبل.

والأمر الذي يزيد هذا التفكك الاجتماعي خطورة، هو ما تعانيه شرائح النخب الفكرية من تشرذم، كأن التفكك الاجتماعي المولد للنزعات الفئوية والطائفية والقبلية، يتدعم بتشرذم ثقافي وفكري يعاني حالة من المواجهة الفكرية والنفسية المقطوعة الصلة فيما بينها، بل المتصارعة حتى النفي أو الموت.. هذه الحالة تبدو في إطلاق أفكار لا تتواصل، بل تتحارب، وإن تعايشت في مجتمع واحد. إن اللاتجانس هنا، يعبر عن حالة تشرذم بين المثقفين العربي، وطريقة تعاملهم مع المرجعيات الفكرية والمدارس والمناهج، وتبدو لي أن هذه الطريقة واحدة سواء تعلق الأمر بأشكال تمثل الثقافة الغربية أو بأشكال تمثل الثقافة الإسلامية. فالثقافة العربية قلما تستوعب في عقل نقدي، وإنما تنقل عبر تعبيراتها أو المرحلية نقلاً جزئياً (مدرسة من المدارس أو نظرية من النظريات تدرس كحقيقة ومرجعية قائمة بذاتها)، والثقافة الإسلامية لا تستحضر- ولاسيما لدى العديد من الكتاب الإسلاميين- إلا من خلال الموقف السياسي والدعوي الراهن، وغالباً ما ينحصر المثقف الإسلامي في قطاع معرفي وحيد الجانب هو قطاع الفقه وحده، وفي قطاع اجتماعي سياسي واحد هو قطاع السياسة اليومية والخطاب التعبيري والتحريضي وحده.

والأدهى من هذا وذاك، أن تشكل المدرسة في صيغة فرقة أو مذهب أو موقف عصبوي، وأن تستدخل النظرية أو صيغة الاجتهاد أو وجهة النظر في صيغة دوغماتية وعقيدية، ترى أنها شرط (لمشروع حضاري عربي) مفصل على قياسها، فيضحى- على المستوى الثقافي- لكل (عصبة فكرية) أو وجهة نظر مشروعها الحضاري العربي- ولكل دولة أو حزب – على المستوى السياسي- مشروعها (كأمة) قائمة بذاتها، أو مشروعها الذي تطمح فيه لإلحاق الكل بالجزء، فتنوب نخبة الدولة أو الحزب وحدها عن الأمة وتنطق باسمها.

ومن أوجه استفحال المشكلة، على مستوى تشكل العصبيات الفكرية والسياسية ما أضحى يسمى في بعض مناهج الفكر الإسلامي وبعض مناهج الفكر البنيوي (مرجعية إسلامية أصيلة) أو (مرجعية غربية وافدة).

وعلى الرغم من تباين الموقفين، فإنهما يلتقيان منهجياً، في تجميع التاريخ وإيقافه وحبسه في أنساق ومرجعيات ثابتة لا تبديل فيها ولا تغيير ولا تفاعل.

إن دراسة تجارب التاريخ، والتاريخ المقارن للحضارات بصورة خاصة، علمتنا أنه من الصعب عزل الوافد عن الأصيل في حضارة ما، أو فرز الأحجام والأنواع، والعناصر المكونة لمشروع حضاري أومدرسة فكرية، فما يسمى – تجاوزاً- (أصيل) هو جزء من تراث متحرك ومتحول في التاريخ، لم يكن أصلاً في زمن تكونه، بل كان في جزء كبير منه (وافداً) من حضارة أو حضارات أخرى، وأن ما يسمى (الوافد) هو جزء من حضارة عالمية، أو حضارة غالبة، أضحى من الصعب مع تطور كل وسائل التعليم والتعلم والإعلام والمعرفة، التعامل معه (كاختراق ثقافي) أو كـ(غزو ثقافي) أو مختصر ودخيل كما كان الموقف في القرن التاسع عشر أو مطالع القرن العشرين (مرحلة الاستعمار المباشر).

إن الوافد والأصيل اختلطا اليوم في التكوين والتشكل حتى أصبحا جزءاً من حالة ذهنية في الشخصية العربية ولدى النخب المثقفة على وجه أكثر تحديداً، ومهما اختلفت مشارب هذه الأخيرة وتنوعت اتجاهاتها.

لكن المشكلة تبقى كامنة في عدم وعي هذا الاختلاط والتداخل وعياً تكاملياً ونقدياً، فثمة افتعال لا تفسره إلا أحوال نفسية واجتماعية تؤدي إلى الإحباط لا إلىالتفاؤل، والإحباط غالباً ما ينتج ردود فعل مستسلمة للعلاج وأوهاماً للتصنيف والتشخيص، وغالباً ما يتخذ التصنيف شكل الثنائيات البدائية المفتعلة.

الخير مقابل الشر، الحق مقابل الباطل، إنها ثنائيات يستسهل من خلالها الصراع اليومي لدى فئات المثقفين، فترى مصطلحات تنقطع عن جذورها الفكرية وسياقاتها التاريخية لتحول إلى متاريس وبيارق وخنادق للصراع السياسي اليومي، والأمثلة على ذلك كثيرة، إنها من قبل هذا الافتعال لإبراز عناصر مبسطة وسهلة يتم وعيها بأشكال متقابلة في وعي المثقفين، ودون أن يكون لهذه الثنائيات المتصارعة على مستوى صورة الوعي، سندها ومبررها على مستوى حركة التاريخ والقوى الاجتماعية والمصالح التي تحملها.

 

العدد 1104 - 24/4/2024