نقاش حول الهيمنة ومؤشرات أفولها

يونس صالح:

يذهب المفكر الإيطالي الكبير أنطونيو غرامشي إلى أن الهيمنة نظام يقوم على فرض أسلوب معيّن للحياة والفكر، ووجود تصور وحيد للحقيقة يسود المجتمع ككل، ويمحو كل مظاهر الوجود البشري من عادات وأخلاقيات ومبادئ دينية وسياسية. ولقد سيطرت مشكلة الهيمنة على جانب كبير من تفكيره، فهو الذي صاغ الكلمة والمفهوم الذي يعني ضمناً سقوط أي ثقافة وخضوعها لسيطرة وتأثير جماعة أو طبقة واحدة معينة، بحيث يتم توجيه كل الممارسات اليومية، بل والمعتقدات والأفكار المشتركة لخدمة النظم والأنساق المعقدة التي تقتضيها الهيمنة.

والواقع إن تحليل هذا المفهوم كان يقصد به في أول الأمر تفسير الأسباب التي أدت إلى فشل الثورات الشمولية التي كان يتوقع نجاحها في الدول الأوربية الصناعية، وفشل الطبقة العاملة في إسقاط الرأسمالية وإحلال الشيوعية محلها، ورد ذلك الفشل إلى نجاح الثقافة المهيمنة في تلك الدول في السيطرة على الإيديولوجيا التي يؤمن بها العمال، وعلى تنظيماتهم، إلى درجة أن جانباً كبيراً منهم اعتنق النظرة التي كانت تبشر بها الطبقة الحاكمة أو المهيمنة التي سارعت إلى اتباع سياسات جديدة في التعليم الإجباري والإعلام الجماهيري والثقافة الشعبية وغير ذلك من الإجراءات العملية التي ساعدت على فرض سياستها الثقافية المهيمنة.

فالهيمنة في أبسط صورها ومعانيها هي التحكم والسيطرة التي تمارسها دولة أو فئة اجتماعية على غيرها من الدول أو الفئات.. أي إن الهيمنة تعني بل وتتطلب وجود علاقات غير متساوية أو غير متوازنة بين طرفين أو إيديولوجيتين أو جماعتين اقتصاديتين أو سياسيتين.. وكثيراً ما نجد أن فئة صغيرة من الناس أو السكان تسيطر وتتحكم في النظم والحياة الاقتصادية والسياسية، وتتولى تشكيل أنماط السلوك والقيم التي ينبغي أن تسود في المجتمع. فالإيديولوجيا المهيمنة تقوم على أساس ضرورة الخضوع والتسليم بوجهة النظر التي تفرضها تلك الفئة الصغيرة على أغلبية السكان، وأن هذا الخضوع يحقق لجماعة الصفوة الصغيرة المهيمنة مصلحتها الخاصة التي كثيراً ما لا تتفق مع المصلحة العامة للجماعة الخاضعة، أو التابعة، كما أنه ليس من الضروري أن تلجأ تلك الجماعة المهيمنة إلى القوة لفرض هيمنتها، وذلك إذا أفلحت في تسخير وسائل الإعلام ونظم التعليم ذاتها ومناهجه ومقدراته في نشر تلك الآراء ووجهات النظر وتقبلها، بل وأحياناً التحمس لها والدفاع عنها من دون إدراك لأبعادها الحقيقية.. وهذا لا يمنع بطبيعة الحال من إمكان اللجوء إلى القوة لفرض الرأي إذا تطلب الأمر ذلك. ومع أن الفكرة ذاتها بدأت أصلاً في المجال الاقتصادي، فإن المفهوم لم يلبث أن امتد إلى مختلف المجالات وشتى ملامح الحياة والنظم.. فالمعايير الثقافية والاجتماعية ليست دائماً معايير محايدة أو موضوعية تنطبق على كل أفراد المجتمع أو فئاته وقطاعاته بغير تفرقة أو تمييز. إذ كثيراً ما تراعى الفوارق بين الأفراد والجماعات حين يقتضي الأمر ذلك، ولذا فإن المعايير تستخدم لفرض الرأي والسياسة والاتجاهات التي ترى بعض الهيئات ضرورة إملائها على الآخرين، بحيث يستجيبون لها سواء عن قبول ورضا و(اقتناع) أو خضوعاً لوسائل وأساليب القهر والقسر، وهذا يصدق على العلاقات داخل المجتمع الواحد مثلما يصدق على العلاقات بين الدول، بكل ما ينجم عن ذلك من أوضاع تتراوح بين الإذعان والخضوع المطلق والتسليم بالأمر الواقع، والتمرد والرفض والثورة وحركات التحرر.

وفي هذا الصدد نجد غرامشي يؤكد ويركّز بنوع خاص على دور المثقفين الذي يتفاوت من العمل على ترسيخ مفهوم الهيمنة إلى إيجاد مشروع مضاد للهيمنة القائمة بالفعل وصورة بديلة للقيادة السياسية والأخلاقية السائدة.

لقد أمكنتمويه أهداف الهيمنة لتسهيل قبولها والخضوع لها، من خلال الادعاء والتظاهر بأن لها رسالة أخلاقية وإنسانية ترمي إلى تحقيقها في المجتمعات المقهورة والمغلوبة على أمرها، وأن هذه الرسالة تمثل عبئاً ثقيلاً يتعين عليها أن تحمله وتتحمله من أجل تحقيق الإصلاح ونشر ثقافة الديمقراطية التي تعتبر الركيزة القوية للتقدم.. إلا أن هذا الادعاء الزائف قد أخفى في طياته نزعات الاستغلال الاقتصادي للمجتمعات النامية الغنية بمواردها الطبيعية وبالأيدي العاملة الرخيصة.

إن الدول المهيمنة تتخفى وراء أسباب إنسانية، وتزعم أن الدافع ليس هو الطمع في ثروات الآخرين، ولكنها هي المصلحة المشتركة التي تفرض عليها اللجوء عند اللزوم إلى استخدام القوة لدعم الاستقرار، بينما يقول الواقع إن وراء الهيمنة تكمن القوة والرغبة في فرض السيطرة والاحتكار بمختلف أشكاله، وفي هذا السياق يمكن ملاحظة أن الولايات المتحدة قد أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السلطة الكونية الوحيدة خلال عقدين من الزمن، إلا أن المؤشرات تقول بأن عهد الإمبراطوريات المهيمنة قد انقضى، وأن أي قوة غاشمة وقاهرة لن تتمكن من السيطرة الكاملة على شؤون العالم كله في ظل التكتلات الكبيرة التي تنشأ الآن، والتي تعمل ضد محاولات فرض هيمنة قوة واحدة على أقدار الشعوب والأمم ومصائرها.

إن كل هذا قد يكشف أن عصر الهيمنة آخذ بالانتهاء، على الرغم من الاتجاهات التي تطفو على السطح من حين إلى آخر، والتي تدعو إلى العودة إلى ممارسة بعض أساليبها الفوقية لمحاربة التيارات التحررية.

 

العدد 1104 - 24/4/2024