وعينا بذاتِنا الجنسية والتربية الجندرية
عهد بيرقدار:
لطالما حددت ثقافتنا المجتمعية توجهاتنا الفكرية والعملية ونسقت أدوارنا ضمن المجتمع، تبعاً لما تربينا عليه من مفاهيم وعادات توارثناها جيلاً بعد جيل، متناقلين هذا الإرث حتى بات جزءاً منه عبئاً ثقيلاً على عاتقنا. ذلك أن البشر بطبيعتهم يتعلمون من تجارب الشعوب التي عاشت قبلهم ومهاراتها، ومن الحكمة أن يفعلوا ذلك لأن فيه تجنباً كبيراً لإضاعة الوقت والبدء من جديد مع كل جيل. لكن ينبغي ألا نتجاهل السياقات التي نشأت بها تلك التجارب والأفكار وألا نقوم بإسقاطها على حاضرنا بحرفيتها وكأن الزمن والأفكار لا يتغيران. فتطور العلوم والتكنولوجيا غيّر الكثير من شكل حياتنا عما كان يعيش عليه أجدادنا. فلم يعد العمل مقتصراص على الزراعة والتجارة، ولم تعد علاقاتنا الاجتماعية محدودة في إطار محيطنا الجغرافي بما فيه من عائلة وأقارب، بل أصبح العالم قرية صغيرة وبإمكان أي إنسان أن ينشئ صداقة إلكترونية مع شخص آخر في أية بقعة جغرافية كانت. وهذا غيّر كثيراً من فهمنا لذاتنا ولنمط العلاقات الاجتماعية والأفكار من حولنا.
عولمة العالم وتقارب الأفكار الثقافية بعضها من البعض جعلت من الجميع أكثر اطلاعاً على أفكار حياتية قد تعجبهم وتتناسب مع توجهاتهم الفكرية أكثر من تلك السائدة في مجتمعاتهم. ذلك أنَّ توافد هذه الأفكار العالمية جعلت من جميع البشر يعيدون التفكير في حياتهم وتوجهاتهم الفكرية والجنسية والاجتماعية. وخلقت مقدرة على التعبير تتجاوز مقدرة أجدادنا في تبني أفكار حديثة على المجتمع. ذلك أن الحديث بهذه المواضيع الجديدة أصبح حديثاً عالمياً ومحمياً بموجب حرية التعبير والاختلاف. وفي ظل الخوف من التغيير الذي ينتاب البشر وبين صراع من نكون ومن يَفترض المجتمع أن نكونه، خُلقت معضلة جديدة وهي النوع الجنسي الاجتماعي (الجندر) التي يُسقطها المجتمع علينا ونمتثل لحركاتها وأفكارها في كل تفصيل وحدث من حياتنا. ولأن التغيير في الأفكار سيخلق حتماً تغييراً في الممارسات وفي الثقافة المجتمعية السائدة، أصبح التصدي لهذه الأفكار الجديدة واجباً على كل محافظ عالق في تاريخه وماضيه ومعرفاً هويته الذاتية بناءً عليه.
والتفكير بحتمية أنّ سلم التطور الفكري لا يقف أبداً عند فكرة واحدة والسعي لتنفيذها، بل هو عملية متكاملة ينبغي العمل على جميع جوانبها معاً، يمكننا أن نقول إنَّ نقطة الانطلاق المهمة للتغيير الجوهري الذي سيحقق منفعة اقتصادية وفكرية لأي مجتمع هو النظر إلى وضعية النساء والرجال ضمنه، والنظر إلى التربية الجندرية. فعند السعي لتحقيق أي تطور فكري علينا أولاً أن نعي ذواتنا حقاً ونميز بين الوعي الذاتي الذي اكتسبناه خلال تنشئتنا من المجتمعن وهويتنا الحقيقية التي كونّاها بعيداً عن التأثيرات المجتمعية المحيطة بنا. وذلك بغية تكوين مقدرة على الوقوف شامخين على الأرض، مالكين هوية حقيقية معتمدة على وعينا بذاتنا العلمية والفكرية التي ستساعدنا على خلق شخصيتنا الاجتماعية بعيداً عن جنسنا. فأنا، ذكراً كنت أم أنثى، لا ينبغي أن يؤثر ذلك على نمط حركاتي أو أقوالي أو طريقة العيش التي أفضل اتخاذها.. هذا يعني أنَّ ما يميزني كإنسان أولاً هو أفكاري وأعمالي وليس جنسي إن كنت ذكراً أو أنثى!!
لماذا نخوض في هذا النقاش؟
لأن أول ما تقوم به الهوية الجندرية التي يفرض علينا المجتمع أن ننشأ عليها هو تربيتنا على صفات إنسانية مخصص بعضها للرجال، في حين بعضها الآخر موجه للنساء اعتماداً على جنسنا البيولوجي. فالاحتفالات بجنسنا البيولوجي وتحويله إلى جنس اجتماعي تبدأ من فترة كنا أجنة، ومنذ بدء الوالدين بتجهيز الثياب للمولود الجديد، فيفترض الجميع أن الفتاة سترتدي لباساً بلون زهري، وستلعب بالباربي وستكون أمّاً وستعتني بالعائلة وستهتم بشؤون المطبخ وغيرها الكثير من التفاصيل التي لا تنتهي، في حين أن الصبي ثيابه زرقاء ولعبته سيارة ودراسته علمية وحديثة خشن ومسؤوليته أكبر.
فيصبح اللون وطريقة المشي وطريقة التفكير وطريقة التعامل مع الأصدقاء والعائلة والعمل وغيرها الكثير رموزاً للتمييز بين الرجل والمرأة.
لا تستغرب إن سمعتَ من منظّري الجنسانية والجندر أنه لا يوجد في الحياة ما يعرف بالرجل والمرأة، وأنهما مصطلحان اجتماعيان يستخدمان لوصف الفروقات الاجتماعية بين الذكر والأنثى. فكل طفل يولد بأعضاء جنسية أنثوية هو حتما امرأة في المستقبل، في حين أن امتلاكه لأعضاء ذكورية يعني أنه رجل. لكن ما خص أعضاء الجنسية بتحديد أدوارنا المجتمعية؟ لماذا يدخل هذا بذلك وما شأن المجتمع إن كنتُ ذكراً أم أنثى!! هذا تماماً ما أريد التوقف عنده ملياً لأن التربية التي تفترض أننا رجال ونساء ستحدد أعمالنا داخل المنزل وخارجه وفقاً لذلك، حتى إنها ستحدد توجهاتنا العملية تبعاً لذلك. فتصبح النساء بحكم توصيفهم بأنهن أكثر حناناً وأكثر مقدرة على الرعاية، وهنَّ أصلن من ينجبن، ويصبحن مسؤولات عن الأعمال التي تهتم بالخدمات والرعاية والتربية، وحتى إنهن يتوجهن لدراساتٍ علمية ذات طابع خدمي حتى تلبي هذا التصنيف الجندري الذي اتبعنه. في حين أنَّ الرجال الذين يوصفون بكونهم أقوياء ومسؤولين عن تأمين الأمن والأمان يصبحون أصحاب الأعمال التي تتطلب قوة عضلية وذهنية وسياسية، ويتوجهون لدراسات الاقتصاد والتجارة والسياسة وهكذا.
الجنس اليوم وسابقاً واحد من أعقد مشاكل العصر، فنحن خلقنا على شكلين: أنثى وذكر، وارتبطت ثقافاتنا وممارساتنا بهذه الثنائية وركّبنا عليها جميع أدوارنا المجتمعية، وأصبح كل ذكر رجلاً وكل أنثى امرأة، حتى بات الفصل بين هذين المصطلحين من القضايا الشائكة في جميع المجتمعات. أن تكوني أنثى هذا لا يفترض أنك امرأة وينبغي أن تقومي بواجبات النساء، وأن تكون ذكراً هذا لا يفترض أنك رجل ويفترض أن تعيش بطقوس الرجولة. التعقيد يصبح أكبر كلما تعددت المصطلحات وتعددت شروحاتها. فكم من نساء تقول في مجتمعاتنا العربية إنني أبحث عن رجل بمعنى الكلمة لا عن ذكر، فتربط الرجل بقيم الشهامة والفروسية والكرم والنبل وغيرها، وتجرّده من كونه ذكراً له رغبة جنسية. لكن الحقيقة ان هذه الصفات الموجهة للرجل ينبغي أن تكون صفات إنسانية وليس صفات رجولة. والرغبة الجنسية عند الذكر والأنثى ينبغي أن تكون غريزة طبيعية لا تَخوف منها ولا خزي ولا عار، فجميعنا لدينا رغبة جنسية ينبغي ان تُحترم، وجميعنا لدينا صفات إنسانية ينبغي أن نَحترم تملكنا إياها. فالكرم صفة من الجميل أن تمتلكها المرأة أيضاً والحنية صفة من الجميل أن يمتلكها الرجل أيضاً.
في دراسة ميدانية أجريت على دور الأم والأب في تنشئة ورعاية أبنائهم. لوحظَ أن نسبة كبيرة من الآباء والأمهات يتعاملون مع أطفالهم الصغار تبعاً لدورهم الجندري الذي تعلموه مع الزمن، ذلك أن التربية لم تكن مرتبطة بجنس كل من الأب والأم بل بالدور الذي تعلم كل منهما أن يقوم به أثناء التنشئة. ففي حين أن الأمهات كنَّ أكثر تواصلاً بصرياً وحوارياً مع أبنائهن، كان الآباء يلعبون أكثر مع أبنائهم. هذه التربية لم يكن لها علاقة بالجنس البيولوجي للأطفال أو الوالدين بل كان لها علاقة بالجندر الذي يعرفون وفقاً له.
هذه التربية المجتمعية الجندرية تخلق الكثير من المشاكل الحياتية، فعندما تبدأ التنشئة بأن الرجل هو المسؤول عن تأمين الاحتياجات المالية للأسرة وتأمين الأمان، والمرأة هي المسؤولة عن تربية الاطفال وتأمين جو الحنان والهدوء داخل المنزل، يربي الوالدان أبنائهم على هذا الأمر، ينشأ لدينا جيل كامل يتعامل بهذا المنظور نفسه لمهام الرجل والمرأة، وعندما تكبر دائرة العمل ويصبح الأطفال كباراً ويخرجون إلى سوق العمل، سيبحثون عن قطاعات العمل التي تبرمجوا أنها الأنسب لأدوارهم الجندرية. وسنجدهم يتوجهون إلى تأدية الأدوار نفسها المسؤولين عنها بوصفهم رجالاً ونساء، فالنساء تتجه إلى قطاعات التربية والرعاية والخدمات في حين يتجه الرجال إلى قطاعات الاقتصاد والتجارة والسياسة وحتى في تسلم القيادات إن كانت رئاسية أو وزارية أو أياً كانت نرى أن الرجال من يتسلمونها بحكم أن لديهم قدرة عقلية أكبر على تنظيم المشاريع بعيداً عن مشاعرهم.
الحقيقة التي يصعب على أي مجتمع تقبّلها هي أنه لا يوجد رجل ولا امرأة فهما مصطلحان جنسيان اجتماعيان ينبغي إعادة التفكير بهما. الحقيقة أننا جميعنا بيولوجياً متشابهون ونختلف في الأعضاء التناسلية فقط، لكن لا اختلاف في الصفات الانسانية التي ينبغي أن نمتلكها ولا اختلاف في حقوقنا المجتمعية ولا في إمكانياتنا العملية. حتى النساء قادرات على تنمية قوة عضلاتهن واستخدامها بالشكل المطلوب، والرجال قادرون على التفريغ العاطفي والبكاء، ليس هنالك من صفة رجولية ونسائية.
لتغيير المجتمعات وتطوير قدراتها العلمية والعملية، ينبغي أن نبدأ في فهم جذور المشكلات والبدء في حلها، لننطلق من قاعدة محمية متزنة. المساواة ضرورة حتمية في سياق حياتنا المعاصرة، ولن تتحقق بصورة واقعية إلا عن طريق فهم جذري لميولنا الجنسية وتربيتنا الجندرية. فلو ولدَ طفلٌ وقرّر الوالدان أن يقوما بعدم إخبار أحد عن جنسه، وتربيته دون النزوع إلى التربية الجندرية على أنه صبي أو بنت، أي يرتدي فقط ثياباً بيضاء على سبيل المثال لا الحصر ويلعب بالسيارات والباربي في الوقت ذاته؛ فمن سيحزر من الجميع ما جنس هذا المولود؟! هذا هو المنطق فلا ينبغي أن يتعامل البشر مع بعضهم وفقاً لجنسهم؟ فليس الجنس ولا العرق ولا الدين ما يحدد هوية المرء، بل وعيه وثقافته وعلمه هويته.
ذلك أنَّ معلوماتنا العلمية والتاريخية والدينية وغيرها الكثير أصبحت أوضح وأنضح مما كانت عليه سابقاً، وهي في تطور مستمر لتزيد من خزينة البشر العقلية. هذا يعني أن قضايا المجتمع المعاصر ليست أبداً قضايا رفاهية وترف وليست تهديداً لهويتنا بل هي بناءٌ لها، وينبغي النظر إليها بوصفها قضايا جوهرية لتحقيق التقدم الأمثل للمجتمعات والحضرية الأرقى للأفراد. ذلك أنّ التطور الفكري ضرورة حتمية سنبقى نمر عبرها ما دمنا بشراً ولا يجوز أن نقف متفرجين على تقدم المجتمعات الاقتصادي والعلمي ونحن مكتوفو الأيدي. وعينا بذاتنا الجنسية من الممكن فعلاً أن يحدث نقلة نوعية في طريقة تفكيرنا، لنحقق المزيد من التقدم الفكري والاقتصادي.