أسئلة حول الهوية الثقافية

يونس صالح:

إن الهوية الثقافية لجماعة ما، أو أمة ما، تصنعها عوامل ومكونات عديدة، بعضها موروث عن الماضي، والبعض الآخر من نتاج الحاضر، وبعضها ناتج عن الاحتكاك بالأمم والجماعات البشرية الأخرى.

ويمكن أن نضع تقسيماً آخر لمكونات الهوية الثقافية، فهناك المكونات المادية للهوية الثقافية، وهناك المكونات اللامادية للهوية الثقافية. والمكونات المادية تتمثل فيما اصطلح المتخصصون على تسميته (الثقافة المادية)، التي تشمل جميع أنماط النتاج المادي الذي يعبر عن الهوية الثقافية في جوانبها المادية، المتمثلة في الفنون التشكيلية والحرف والصناعات اليدوية والملابس وأدوات الزينة وسائر ما يستخدمه الناس في حياتهم اليومية، وما إلى ذلك. ومن نواحٍ أخرى هناك الجوانب اللامادية في تكوين الهوية الثقافية، وهي تتضمن كل ما هو غير مادي من صنوف الإبداع الأدبي والفكري، والفلسفة التي تقوم عليها حياة الجماعة، ورؤية الجماعة لذاتها وللآخر، والعادات والتقاليد، وحكمة الماضي الموروثة، فضلاً عن النظام القيمي والأخلاقي.. وما إلى ذلك.

وعلى الرغم من أن الهوية الثقافية مكونة من مجموع الموروثات الثقافية والفكرية، والعادات والتقاليد، والنظام القيمي والأخلاقي، ونتاج الحاضر العلمي والفكري والفني، فضلاً عن الروافد والمؤثرات الناجمة عن التفاعل المتبادل مع الأمم والجماعات الأخرى، فإن الهوية الثقافية لكل أمة من الأمم أو جماعة من البشر، تتخذ سمات عامة وملامح كلية مختلفة عن السمات والملامح التي تتسم بها الهويات الثقافية الأخرى.. وهو ما يجعلنا نفرق بسهولة بين الهوية الثقافية للأمة والهويات الثقافية للأمم الأخرى. ومن ناحية أخرى فإنه على الرغم من الوحدة الظاهرية للهوية الثقافية لأمة من الأمم، فإن هذه الهوية الثقافية التي تبدو واحدة تنطوي على عدد من الهويات الثقافية الفرعية التي تصب في المجرى العام للهوية الثقافية الكلية.. وتتوازى هذه الثقافات الفرعية مع الخصائص السكانية والاجتماعية لكل بلد من البلاد.

 

مكونات الهوية الثقافية

إن الهوية الثقافية تنطوي على جميع ألوان الطيف الثقافية التي تتوازى مع مكونات البناء الطبقي من ناحية، وخصائص الشرائح الاجتماعية من ناحية أخرى، داخل البناء الكلي لكل جماعة أو أمة.. وهذه التنويعات الثقافية داخل الهوية الثقافية هي ما اصطلح على تسميته (الثقافات الفرعية) التي تصب في المجرى العام للهوية الثقافية الكلية.

ومن هنا فإن التراث بكل ما يحمله من ثقل الماضي وحكمته وتجلياته في الحاضر، إلى جانب النتاج الثقافي للجماعة أو الأمة بتنويعاته المادية واللامادية، يشكل الشطر الأكبر من ملامح الهوية الثقافية للجماعة البشرية بطبيعة الحال. أما الروافد والمؤثرات الخارجية، فإنها تبدو للوهلة الأولى مرتبطة بالنخبة الثقافية وممارساتها الثقافية، ولكن النظرة المتأنية تكشف عن أن هذه الروافد والمؤثرات الثقافية الخارجية- ومن بينها الترجمة- تعتبر من العوامل المهمة في تشكيل الهوية الثقافية.

إضافة إلى ذلك هناك الروافد والمؤثرات التي تنتج عن الاحتكاك بالأمم والجماعات الأخرى، وقد تكون هذه الروافد والمؤثرات الخارجية ناتجة عن الجوار الجغرافي، أو التبادل التجاري، أو التفاعل السياسي والاقتصادي، أو حتى نتيجة الحروب والصراع العسكري.. أو غيرها من العوامل، بيد أن هناك نمطاً آخر من الروافد والمؤثرات الخارجية التي تسهم في بناء الهوية الثقافية يتمثل في التفاعل العلمي والأدبي والفكري مع الآخر، وعلى هذا المستوى نجد أن التواصل قد يتم على مستويات فردية وشخصية حقاً، ولكنه يؤدي بالضرورة إلى نتائج جماعية يتمثل في انتقال العناصر الثقافية من جانب إلى آخر على نحو يكاد يكون تلقائياً وبسيطاً، ذلك أن الأفراد الذين ينتقلون للعيش في رحاب ثقافة أخرى قد ينقلون خبراتهم الثقافية إلى مجتمعاتهم بطريقة أو بأخرى، وقد يكون النقل عن طريق الترجمة، وقد تحدث عملية التفاعل والنقل عن الآخر على مستوى جماعي أو شبه جماعي.

وهناك مستوى آخر هو المستوى الذي تتم عملية نقل بعض النتاج الفكري والعلمي والأدبي والفلسفي من لغة إلى لغة أخرى عن طريق الترجمة- لمصلحة جماعة ثقافية أخرى، ومن المثير أن هذا يحدث نتيجة التفاعلات الإنسانية المباشرة أو بسبب الجوار الجغرافي أو التفاعل والتبادل الاقتصادي والسياسي، ويمثل حوض البحر الأبيض المتوسط والدول المحيطة به نموذجاً فذاً في هذا المجال. إن كل هذه العوامل كانت موجودة دائماً على مدى العصور التاريخية، كما أنها موجودة شاخصة وماثلة أمامنا في أيامنا هذه. لقد نقل الإغريق القدماء عن المصريين القدماء، ونقل الرومان عن الإغريق، ونقل العرب عن هؤلاء وأولئك وغيرهم، ومع أن تلك النقول كانت من العوامل المهمة في تشكيل الهوية الثقافية لكل حضارة من هذه الحضارات، فإن الهوية الثقافية لكل من هذه الحضارات كانت متمايزة تماماً عن الأخريات.

 

العدد 1104 - 24/4/2024