مفهوم الحرية في فكرنا

يونس صالح:

التأريخ لأي مفهوم من المفاهيم الفكرية أمرٌ عسير ومعقد في جميع الثقافات، وتصبح المسألة أشد عسراً في تاريخنا، ذلك أن المفهوم يتغيّر، متأثراً برؤى دينية وسياسية متباينة، بل قل متصارعة في بعض الحالات.

لقد تأثر مفهوم الحرية في تاريخنا بأمرين أساسيين:

أ- بالمذاهب الدينية.. فالنصوص القديمة لم تتحدث عن الحرية بالمعنى السياسي للمفهوم، وإنما أسهبت الحديث عن الاختيار مقابل الجبر، وجاء الحديث عن الحرية باعتبارها نقيضاً للعبودية، ولكن ذلك لم يعنِ في نظري غياب الشعور بالحرية في مقاومة مظاهر الظلم والاستبداد، كما عبّرت عن ذلك الانتفاضات الاجتماعية التي تزعمتها طبقة العامة في تاريخ المدينة العربية الإسلامية مشرقاً ومغرباً، فهي انتفاضات ذات محتوى اقتصادي اجتماعي، ولكنها اصطبغت بالصبغة الدينية المذهبية، وهي صبغة ذلك العصر.

ب- بظاهرة العبودية، وهي راسخة في الحضارات القديمة، وفي المجتمع العربي الإسلامي، إن الرقيق أصبح بالنسبة لهم المجتمع وبخاصة بعد التطور العمراني والدينامية الاقتصادية اللذين شهدهما عصرئذٍ قوةً منتجة هائلة، وبضاعة ثمينة من بضائع العصر، وقد حال هذان العاملان إلى جوانب عوامل أخرى دون قطع خطوة نحو تقليص ظاهرة العبودية والرق.

إن المجال هنا لا يسمح بتناول المراحل التاريخية المختلفة التي مر بها مفهوم الحرية في التاريخ العربي، لكننا سنركز على الجوانب التي لها علاقة بالسياسة وشؤون الحكم، لنصل بعد ذلك إلى مرحلة النهضة العربية الحديثة، عندما برز مفهوم الحرية بمعناه السياسي، ومقابلاً للحكم المطلق الاستبدادي. يتساءل الدارس عندما يحاول التأريخ للمفهوم في الماضي عن أبرز معانيه ومراحله؟ قال ابن منظور في (لسان العرب): (والحُرّ بالضم نقيض العبد، والحرّة نقيض الأمة، والحرّ من الناس أخيارهم، والحرّة الكريمة من النساء)، وعندما تحولت الخلافة الراشدية القائمة على الشورى إلى ملكية وراثية في عهد الأمويين، سادت الإيديولوجية الجبرية، التي حاولت توظيف النص الديني توظيفاً سياسياً مكشوفاً لتجريد الإنسان من قدرته على الاختيار، وفرض الطاعة لأصحاب السلطان، وجُنّد لأجل ذلك خطباء المساجد والشعراء والقصاص، وروِّجت أحاديث وغير ذلك.

ومن هذه الأمثلة القليلة تتضح العلاقة الوطيدة بين الإيديولوجية الجبرية وإشكالية الحرية في التاريخ العربي. لقد سعى المنظرون لها إلى سلب الإنسان من كل قدرة انبرت للرد عليهم، أبرزها آنذاك كان تيار المعتزلة، الذي أسّسه الحسن البصري، والذي يقول بأن الناس مخيرون، وهم بالتالي مسؤولون عن أفعالهم، وبالتالي فقد اعتمد الحسن البصري خطاباً تنويرياً كان جديداً في ذلك العصر.

لم يأتِ الحديث عن مفهومي الجبر والاختيار في هذه الورقة مصادفة، بل جاء نتيجة علاقتهما المتينة بإشكالية شرعية السلطة في المجتمع العربي الإسلامي، وعلاقتهما تبعاً لذلك بمسألة الحرية.. ولكنني أودّ الإشارة بإيجاز إلى أبعاد أخرى من أبعاد الحرية وقف عندها الفلاسفة وعلماء الكلام والمتصوفة، وأعني بذلك: البعد الفلسفي، والبعد التصوفي، والبعد المدني السياسي، ومن المفكرين العرب القلائل الذين تفطّنوا إلى البعد الأخير ابن رشد، في تعليقاته على جمهورية أفلاطون والفارابي في كتاب (السياسة المدنية).

وأودّ في نهاية هذه الفقرة الإشارة إلى مسألتين:

أولاً- إسهام التيار التنويري المعتزلي في إعطاء بعد سياسي لمفهوم الحرية بنشره مقولة الاختيار بين الناس، وإقامة الحجة من خلال النص الديني على أن الإنسان مخير، وفندوا بذلك مقولات الإيديولوجية الجبرية.

ثانياً- غاب الجدل حول مسألة الجبر، والاختيار، بعد بروز سلطة العسكر، وأصبحت الفرق الانكشارية هي دعامة السلطة، وقد استفحل أمر هذه الظاهرة مع مجيء السلاجقة، واستمرت مع العثمانيين، ورافقتها ظاهرتان جديدتان:

– طغيان ظاهرة الإقطاع العسكري في المجال العسكري.

– التحام مدرسة النقل: الأشعرية مع السلطة السياسية ذات الطابع العسكري.

ليس من المبالغة القول إن مفهوم الحرية بمعناه السياسي والذي استعمل نقيضاً للحكم المطلق الاستبدادي لم تتضح سماته، ولم يستعمله رواد حركات التنوير العربي نصلاً ناجعاً لمقاومة النظم الاستبدادية إلا بداية من النصف الأول للقرن التاسع عشر، ولم يتناول التنويريون العرب قضية الحرية في بداية الأمر بصفة مستقلة، وإنما أسهبوا الحديث في وصفها، ويلمس الدارس لأدبيات الفكر التنويري العربي الحدي في يسر تأثير قيم حداثة عصر الأنوار، ومبادئ الثورة الفرنسية في المفاهيم السياسية التي استعملها رواد النهضة العربية، مثل الحرية والحريات العامة والعدل السياسي والحقوق الطبيعية والتمدن والنظم الدستورية والدولة المدنية وغيرها من المفاهيم، وقد أدرك الكثير منهم أن حداثة عصر الأنور قد أصبحت حداثة كونية.

فما هي يا ترى أبرز سمات هذه الحداثة التي حاول الرواد اقتفاء آثارها؟

يمكن تلخيص ذلك في أربع مقولات:

– مقولة (لا سلطان على العقل إلا بالعقل نفسه).

– المقولة الثانية تدمج العقل في ثالوث يقوم على العقلانية، والحرية، والعدل السياسي والاجتماعي.

– المقولة الثالثة: تحرير التاريخ والإنسان من أسطورة الحتمية.

– المقولة الرابعة: تتعلق بشرعية السلطة، فلم تنشأ حركة الأنوار باعتبارها تياراً فلسفياً أو فكرياً مجرداً، بل ولدت وشقت طريقها في خضم صراع مع الواقع المعقد، وهو واقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان: قوة الكهنوت الكنسي، وقوة النظم السياسية الاستبدادية، فليس من المصادفة إذاً أن يكون أخطر سؤال طرحه مفكرو عصر الأنوار هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها للتحكم في رقاب الناس، ومصالح المجتمع؟

ونعود لنؤكد أن هذه المقولات قد انعكست بدرجات مختلفة في كتابات المفكرين العرب.

بيد أن مفهوم الحرية أصبح فيما بعد بارزاً في جل نصوص التنويرين العرب، ويعدّ عبر الرحمن الكواكبي (1854-1902) في طليعة التنويريين العرب الذين أعطوا مفهوم الحرية حيزاً بارزاً في كتاباتهم. لقد كتب يقول في (أم القرى): (ولا شك أن الحرية أعزّ شيء على الإنسان بعد حياته، وأن بفقدانها تفقد الآمال وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطّل الشرائع، وتختلّ القوانين).

 

العدد 1102 - 03/4/2024