بعض الأفكار حول الاستبداد الشرقي

يونس صالح:

تطرح أسئلة كثيرة عمّا يسمّى بالاستبداد الشرقي، وهي تسمية ليس بريئة، لكن ملابسات الأمور تسوّغ طرح السؤال بافتراض حسن النية الهادف إلى تحصين الحاضر والمستقبل.

إن الشعوب التي عاشت قروناً تحت ظل (الاستبداد الشرقي) في آسيا، والدول التي عرفت بجمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية، وتلك التي قامت على أسس قبلية في قارة إفريقيا، كلها تطورت نحو مزيد من الديمقراطية وإعطاء بعض الحقوق السياسية للشعب، وتقييد الدور المطلق للحكم الفرد. بينما تأخر هذا في شرقنا العربي على امتداد فترة تاريخية ليست بالقصيرة.

لقد ظلت بعض النظم تبدو وكأنها حضرية تاريخية، لا تعطل قوانين التطور الإنساني فحسب، ولكنها تخالفه، وتنصب حول نفسها شبكة من القوانين المضادة في مواجهة حركة التطور البشري.

لقد ارتبط الشرق دوماً في الفكر الغربي بالطغيان والاستبداد، ورغم أن الحضارة اليونانية شهدت عدة ظواهر من الحكام الذين أطلق عليهم (طغاة أثينا)، فإنهم كانوا ظاهرة استثنائية، يرفضها الجميع ويقاومونها.

لم تكن جزءاً من طبيعة الحياة السياسية الإغريقية، ولم تكتسب ذلك البعد الديني المقدس الذي اتخذه الحاكم في الحضارة الشرقية. لقد كان الفرعون في مصر القديمة إلهاً مقدساً، وكان الأمر ذاته في حضارات بابل وفارس والصين، إذ تحول الملك فيها إلى نصف إله أو إله كامل، وتهبط الرعية إلى مستوى العبيد.

لم يعرف اليونانيون شيئاً عن هذا النوع من الاستبداد الشرقي إلا بعد غزوات الإسكندر التي فتحت العالم الآسيوي والعالم الغربي كل منهما على الآخر.

 

خفوت الإبداع العربي

(والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه!)، كانت هذه- كما روى السيوطي- كلمات الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وهو واقف على منبر مسجد دمشق، وكانت أيضاً بياناً وإعلاناً لا عن بداية عهده فقط، ولكن عن بداية عصور متتالية من استبداد الحاكم العربي المسلم، فلم يشذّ تاريخناً بعد الإسلام عن قاعدة الاستبداد الشرقي كثيراً، فالحاكم الذي يعتقد أنه يستمد سلطته من الإله قد تحول إلى خليفة لهذا الإله، أي أنه اكتفى بأن يكون ظلاً لله بدلاً من أن يكون تجسيداً له، ولكن لم يؤثر هذا في سلطته المطلقة، ولم يجعله يفكر أبداً في إخضاع تصرفاته أو تصرفات المقربين له للمحاسبة أو المساءلة، وبطبيعة الحال لم يفرّق أيضاً بين ماله الخاص ومال المسلمين.

ومن الحق أن نعترف بأن الدولة الإسلامية بلغت أوج قوتها في عهد بعض هؤلاء الخلفاء المستبدين، ولكن مفكري هذه الدولة لم يقدموا الإبداعات التي تليق بهذه السطوة، وهذا الامتداد الزمني، ولم تتوافر لهم الحرية الكافية للإبداع العقلي والفكري إلا ما ندر، ولم تتوافر فيها أيضاً درجة مناسبة من التسامح مع الرأي الآخر، حتى تملأ الدنيا التي حكمتها بالمخترعات والابتكارات والتيارات الفكرية. لقد كانت حضارة المخترعات التي لم تكتمل، والأفكار غير المؤثرة. إن قوة السلطة وسطوتها حالت دون نجاح كثير من الأفكار المتقدمة والثورات التي حملت أفكاراً سبقت زمانها وأوان قبولها لدى الناس.

قليلون هم كتّاب الحرية في تاريخ الفكر العربي، وأعني بهم أولئك الكتاب الذين يكشفون للناس مدى الظلم الواقع عليهم ويعرّفونهم على الذين يقومون بظلمهم، ولعل الشيخ الجليل عبد الرحمن الكواكبي هو أحد هؤلاء الكتاب النادرين، فقد كان معلّماً للصبية في مدينة حلب تحت وطأة الليل العثماني، وعاين وجرّب المظالم التي كان يرتكبها الولاة الأتراك ضد البلاد والعباد. ففي ذلك الوقت من نهاية القرن التاسع عشر كانت الدولة العثمانية تعاني أعراض النزع الأخير، والسلطة الباغية في أشد حالاتها شراسة وهي تحتضر. ودخل الكواكبي السجن أكثر من مرة، وعُطِّلت الجرائد التي أصدرها، ثم انتهى الأمر به مهاجراً وداعياً للحرية ومقاومة الظلم. ويحتل كتابه (طبائع الاستبداد) مكانة مهمة في تاريخنا الفكري، وقد نشره في مصر، وفيه وضع مواصفات للحاكم الطاغية، استمدّها لا من تجربته مع الولاة المستبدين فقط، ولكن من استعراضه للتاريخ الإسلامي. يرى الكواكبي أن الطاغية رجل يصل إلى الحكم بطريقة غير مشروعة، وهو يسلك طريقه للحكم مستعيناً بالمؤامرات أو الاغتيالات، أي إنه لم يكن ليصل إلى ذلك لو سادت الأمور بصورتها الطبيعية. لقد جاء بإرادته لا بإرادة الناس، لذا فإن هذه الإرادة هي القانون الذي يحكم وما على الرعية إلا السمع والطاعة، ولأنه لا يوجد من يخالفه، فهو يسخّر كل موارد البلاد من أجل مصلحته الذاتية، وهو بطبيعة الحال لا يعترف بأي نوع من الرقابة أو المساءلة، فلا يحاسب مهما ارتكب من أخطاء، ولا يرعوي مهما أوغل في الظلم والفساد، وتأتي المرحلة الأخيرة حين يعتقد أنه أسمى من كل مَن حوله، فهم من شدة خوف الرعية منه، يبدؤون في تملقه والتزلف إليه، وهو لا يصدق هذا التملق فقط، ولكنهم يصدقون أنفسهم أيضاً، وتدريجياً يتحول الحاكم المطلق إلى الإله القديم بكل مواصفات الاستبداد الشرقي، فهو ولي النعم، وهو الحكيم والمهيمن والمهيب والأوحد، وغير ذلك من الصفات الأخرى.

ولعل الكواكبي بذلك قد اخترق حاجز الزمن، واستشفّ عن بعد تلك النماذج التي أفرزها التطور الاجتماعي والسياسي في البلدان العربية.

 

العدد 1104 - 24/4/2024