إعادة الإعمار.. كيف؟

كتب رئيس التحرير:

يجري الحديث اليوم حول عملية إنهاض الاقتصاد الوطني، بعد عشر سنوات من الحصار والغزو الإرهابي وسرقة قطاعات الإنتاج الرئيسية في البلاد أو تدميرها وحرقها، وبعد خسارة مواردها من ثرواتها النفطية والزراعية، وتراجع الإيرادات العامة إلى حدٍّ خطير.

ومن الطبيعي الخوض في هذه المسألة، بعد نجاحات الجيش السوري في استعادة معظم الأرض السورية، وعودة الاستقرار النسبي إلى معظم المدن الرئيسية، والجهود الدولية التي تبذل لحل الأزمة السورية عبر الوسائل السياسية.

بدايةً نؤكد أن عملية إعمار ما خربته تداعيات الأزمة والغزو الإرهابي عملية شاقّة.. وطويلة الأمد، بالنظر إلى حجم الخسائر الهائلة التي تكبّدها الاقتصاد السوري، والتي نعتقد أن حجمها يفوق 600 مليار دولار، ونحن ندرك أن هذه العملية تفوق قدرات الدولة، خاصة بعد تناقص إيراداتها العامة، والاستنزاف المقصود للقدرات الاقتصادية والمالية، الذي سعت إليه الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها، بهدف أخذ سورية من بوابة الاقتصاد، وهذا ما دفع بعض المنظمات الدولية والتجمعات الاقتصادية في الداخل والخارج إلى وضع سيناريوهات متعددة لتنفيذ عملية الإعمار في سورية، تتماشى مع دوافع كل منها حيناً، ومع خطط مبيّتة (لتطويع) سورية حيناً آخر.

إن عملية الإعمار تتطلّب توفُّر مصادر داخلية لتمويلها بالدرجة الأولى، وهذا يعني، حسب ما نرى، إنعاش الاقتصاد السوري كي يحقق التراكم الداخلي القادر على التمويل. وهنا نصطدم بعقبة كبرى: كيف ننعش الاقتصاد الوطني في ظل غياب الاستثمارات الخاصة والعامة، وبنية تحتية مهدمة بفعل جرائم الإرهابيين؟ وهل تستطيع قطاعات الإنتاج الصناعية والزراعية المصدر الرئيسي لتوليد فرص العمل، وكذلك قطاع النقل والخدمات والتصدير، الانطلاق، بغياب الاستثمارات البنى التحتية اللازمة لعملية الإنعاش؟

 

السؤال الأبرز هنا: بغياب التمويل الداخلي الآتي من نهوض الاقتصاد السوري، هل يمكن الاعتماد على الدعم والتمويل الخارجي لتنفيذ عملية الإعمار؟

إن بعض السيناريوهات الخارجية المعدّة لإعادة الإعمار تلجأ إلى تضخيم تكاليف هذه العملية، في محاولة لإظهار استحالة تنفيذها بالقدرات الوطنية السورية، لتصل إلى ضرورة الاعتماد على الخارج (القروض المصرفية – قروض البنك الدولي – قروض الشركات الأجنبية المنفذة – المنح المالية المشروطة – قروض وتسهيلات الدول الصديقة)، وهذا السيناريو يجب أن يترافق مع توجه اقتصادي يتوافق مع هذا السيناريو، أي بكلمة واحدة: تبنِّي سياسات اقتصادية نيوليبرالية ريعية.. نخبوية، بالاستناد إلى آليات السوق الحر، ومنسجمة مع النماذج التي روّجت لها المؤسسات الدولية، خاصة برامج التثبيت الهيكلي والتكييف الاقتصادي، أو ما اصطلح على تسميته (توافق واشنطن).

إن عملية الإعمار، بخصوصيتها السورية، تعني أكثر من البناء.. والتصنيع.. وإنتاج المحاصيل، لقد جعلت مجريات الأزمة السورية من هذه العملية – حسب اعتقادنا- خطة شاملة لبناء الإنسان السوري الجديد أيضاً، الإنسان الإيجابي.. الديمقراطي، المتمسك بانسجام مجتمعنا، الذي هدَّدتْ تماسكَه دعواتُ التطرف والتفتيت الديني والطائفي، والارتقاء إلى مجتمع علماني يعطي (ما لله لله وما لقيصر لقيصر). وهذه عملية قد تكون أكثر إلحاحاً وأهمية من البناء المادي للحجر والشجر.

ونرى ضرورياً أن نقول أيضاً: في ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها سورية، وبعد الخسائر الكبيرة التي تحمّلتها مختلف جهات القطاع الخاص – الذي عمد بعض رموزه إلى تهريب أمواله التي جمعها من أموال السوريين -، وبعد انسحاب الشركات الأجنبية مع أول قرار بالعقوبات وفرض الحصار الاقتصادي على سورية، سيكون من غير السليم الوقوع مرة أخرى في أخطاء دفعنا ثمنها في الماضي وما زلنا نعاني تداعياتها، أي تفويض القطاع الخاص والشركات الأجنبية بمهمة الإعمار تحت ذرائع مختلفة تصب جميعها في خانة التكاليف المرتفعة لهذه العملية، وتواضع الإمكانات الحكومية.

الاستثمار.. نعم، إنه الاستثمار الخاص والعام، والأولوية اليوم في ظل تراجع الإيرادات الحكومية، للاستثمار الخاص ومشاركة الرساميل الوطنية المنتجة في المشاريع الحيوية للاقتصاد الحقيقي (الصناعة والزراعة) بالدرجة الأولى، وكذلك مشاريع البنية التحتية. دون الاستثمار لا يمكن تأمين التراكم الداخلي.. ولا توليد فرص العمل.. ولا إنتاج المواد الرئيسية التي تسد حاجات ومستلزمات المواطنين السوريين بدلاً من استيرادها.. ولا زيادة مداخيل العاملين.. ولا تحفيز الطلب في الأسواق.

الاستثمار ليس تشريعاً نسنّه متضمناً جميع المحفزات والإعفاءات على ما لهذه المزايا من أهمية، بل توفير البيئة الآمنة والمستقرة التي لا يهدّدها تجدّد الأعمال العسكرية، وتقسيم البلاد، وغياب التآلف بين أطياف المجتمع السوري، البيئة النظيفة.. الخالية من الفساد والخوّات والتعقيد الإداري البيروقراطي، البيئة التي تضمن حقوق المستثمر وحقوق العاملين أيضاً، وكذلك حقوق الخزينة، بالاستناد إلى قوانين واضحة، وقضاء نزيه يمنح الطمأنينة للأطراف كلّها.

نعتقد جازمين أن توفير هذه البيئة سيتحقق فقط عند نجاح الجهود السلمية لحل الأزمة السورية.

العدد 1104 - 24/4/2024