الملتقى الحواري.. ما العمل؟

د. حسيب شمّاس:

إن الدفاع عن حرية الوطن واستقلاله وسيادته ووحدته أرضاً وشعباً تبقى القضية الأساس في أولويات النضال. وهذه المهمة تتطلب، فضلاً عن المواقف والوسائل السياسية والعسكرية، حشدَ الجماهير الشعبية في سبيلها، مما يستلزم مزيداً من الاهتمام بمصالح هذه الجماهير على جميع الصعد الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية.

وقد سبق لحزبنا أن استنتج في وثائقه، في بداية الأزمة عام 2011، أن جوهر هذه الأزمة العميقة والمتعددة الجوانب التي تمر بها البلاد هو (التناقض بين الصيغة السياسية التي تدار بها البلاد منذ عدة عقود، ومتطلبات الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يحتاج إليها المجتمع السوري).

وقد جابهت سورية شعباً وجيشاً هذه الحرب متعددة القوى والأطراف، بقوة وبسالة منقطعة النظير، وتمكنت بصمودها وبالتضحيات التي بذلها شعبها الجبار، وجيشها الوطني، وبالدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الذي قدّمه لها حلفاؤها المخلصون، وخاصة روسيا وإيران والصين وقوى المقاومة، تمكّنت من دحر هذا العدوان الغاشم وإسقاط مشروع (الدولة الإسلامية)، وتحرير معظم الأراضي السورية من المجموعات الإرهابية المسلحة، وإعادة سيطرة الدولة السورية على هذه الأراضي.

إن الحرب العدوانية الظالمة على سورية لم تنتهِ بعد، وإن تحققت انتصارات كبرى على أعتى القوى الإرهابية التي عرفها العالم، إذ لا تزال هناك أراضٍ محتلة من قوات عسكرية أمريكية وحليفة لها في شمال شرقي البلاد، ولا تزال تركيا تحتل عسكرياً بشكل مباشر وغير مباشر مناطق واسعة متاخمة للحدود معها، وخاصة في عفرين وإدلب وإعزاز والباب ومناطق أخرى من ريف حلب وشرق الفرات. إن هذه المناطق التي تحوي حقول النفط والغاز ومركز الزراعات الاستراتيجية هي خارج سيطرة الدولة. كما تشن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها حرباً اقتصادية شرسة على سورية، تشمل حصاراً اقتصادياً خانقاً، خاصة بعد فرض قانون قيصر – يهدف إلى شلّ مختلف نشاطات الدولة، ويحرم شعبها من أبسط متطلبات الحياة الإنسانية، مما يؤثر على حياة ملايين السوريين ومعيشتهم.

إن أحد المخاطر الأساسية في استمرار هذا الواقع، لجهة بقاء قوى عسكرية أجنبية مختلفة تتوازع الاحتلال لمناطق واسعة من الأراضي السورية، هو أن يتحول ذلك إلى شكل من أشكال التقسيم الجغرافي للوطن السوري.

كما لا يمكن اعتبار أن محاربة الإرهاب والإرهابيين في سورية قد حُسمت بالانتصار عليهم عسكرياً، فالقضية أكبر وأعمق من القضاء على الآلاف منهم ودحرهم كمقاتلين من معظم الأراضي السورية، رغم أهمية هذا الجانب من الحرب. إن الجانب الأكثر أهمية في هذه المعركة هو محاربة المنابع الفكرية للإرهاب من جهة، ونشر الفكر التقدمي العلماني من جهة أخرى، مما يتطلب إشاعة المناخ الديمقراطي في البلاد وتوسيع الحريات للقوى التقدمية والعلمانية، كي تتمكن من القيام بدورها المفترض في هذا المجال. وفي الوقت ذاته، لا بد من مواجهة محاولات تهميش الاصطفافات السياسية الوطنية التي تشكل قاعدة العمل السياسي والديمقراطي، وكذلك مواجهة السعي لإنشاء تخندقات دينية وطائفية وقبلية وعشائرية مما يشكل خطراً على الوحدة الوطنية في البلاد.

كما تتطلب محاربة القوى الإرهابية القضاءَ على العوامل الرئيسية لنمو وترعرع هذه المجموعات، وهذه تتمثل بالتخلف والجهل والفقر، وكذلك بالتفاوت الطبقي وبتفشي البطالة والفساد.

لقد أدت الأزمة واستمرارها إلى تبدّل واضح في التركيب الطبقي للمجتمع السوري. فنتيجة التدمير والخراب والأعمال العسكرية، وما نجم عنها من قتل وهجرة ونزوح، وما أدت إليه من ارتفاع نسبة البطالة، ازدادت أوضاع مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في سورية سوءاً، باستثناء تلك القلة القليلة من المحتكرين والفاسدين وتجار الحروب والأزمات. ولم ينحصر ذلك بتراجع وضع الطبقة العاملة والفئات الكادحة الأخرى وتردي أوضاعها بشكل كبير وحسب، بل بزيادة أعداد الفئات الفقيرة والمحرومة، وانتقال العديد من الفئات المتوسطة إلى مستويات الفئات الأدنى. وجميع الدراسات تشير إلى تراجع كبير في نسبة الفئة الوسطى، أو كما يسميها البعض الطبقة الوسطى في المجتمع السوري، التي تضم كل من يستطيع تلبية حاجاته الأساسية في المجتمع، بسبب خسارة فئات واسعة من هذه الطبقة لأعمالها وممتلكاتها، وانحدار جزء كبير من أفرادها إلى الطبقات الفقيرة أو المهددة بالفقر.

إن لكل فئات الشعب مطالب تتمثل في إنهاض الاقتصاد الوطني، وإعادة الإعمار ومكافحة الفساد. ونحن نربط بين استمرار صمود بلادنا وتخفيف الأعباء عن الفئات الفقيرة وتأمين مستلزمات استمرار صمودها وخاصة المواد الأساسية بأسعار تتناسب مع قدرتها المالية.

وكلّ تهميش لمصالح الفئات الفقيرة التي تشكل غالبية الشعب السوري لن يساعد في استمرار صمود بلادنا وجيشنا في مواجهة الاحتلال الأجنبي وبقايا الإرهاب، والحفاظ على السيادة، بل بالعكس تماماً سيضعف من فعالية هذه المواجهة ويحقق ما يصبو إليه أعداء سورية والشعب السوري.

 

جهود التسوية السياسية

بعد الاجتماع الأخير لدول منصة (أستانا) بمشاركة أطراف عربية ودولية أخرى، والبيان الصادر عن هذا الاجتماع، تبدو آفاق الحل السلمي للأزمة السورية ضبابية.. ودون أية مؤشرات جديدة صادرة عن الأطراف المتداخلة في الملف السوري.

المعارضة (الخارجية) ما زالت ترتهن لأسيادها في واشنطن والرياض وأنقرة. والحكومة السورية أمام تعنت المعارضة لا تبدي حماساً للجنة الدستورية.

من الملحّ اليوم حسب اعتقادنا استمرار مواجهة كل المحتلين الصهاينة والأمريكيين والأتراك، ودعم عمليات المقاومة ضدهم بكل الوسائل وإقناع بعض الأحزاب الكردية أن الحوار مع الحكومة السورية هو الطريق الآمن لتحقيق مطالبهم المشروعة كمواطنين سوريين، وأن توجهات قادة بعض المنظمات الكردية الحلفاء للأمريكيين باستجداء بقاء القوات الأمريكية على الأراضي السورية وتشجيع التقسيم، لن تحمل الخير والأمان، ودروس فيتنام ومؤخراً أفغانستان ماثلة أمام الجميع.

المقاومة ثم المقاومة للاحتلال، والسعي بإخلاص لإنجاح جهود الحل السلمي للأزمة السورية، نعتقد أنه شعار المرحلة القادمة في المسألة السورية.

 

بعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية

يبدو ومما نلمسه واقعياً أن مسألة التوجه الاقتصادي قد حُسمت، وأن ما كان مبيّتاً قبل الأزمة السورية، من خلال النهج الذي كان يمثله الدردري وتمّت مقاومته من قبل جميع القوى الوطنية، يجري الآن تنفيذه بذريعة الحصار والعقوبات ونقص الإيرادات، تدريجياً وشيئاً فشيئاً يدخل الاقتصاد السوري في متاهة السوق الحر:

1-يجري التراجع عن مبدأ (الدولة الراعية) ويتقلص الدعم الحكومي للفئات الفقيرة والمتوسطة أكثر فأكثر (الخبز والمشتقات النفطية)، ومن على هذا المنبر نطالب الحكومة العتيدة بالتراجع عن هذه القرارات غير الشعبية.

2-رفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني (السماد، العلف، المازوت، …).

3-إطلاق أيدي فئة من رجال الأعمال (البازغين) في جميع مفاصل العملية الاقتصادية وتخصيص كل منها بقطاع.

4- الاعتماد على الضرائب غير المباشرة والمخاتلة في مكافحة التهرب الضريبي.

5-وضع الفئات الفقيرة والمتوسطة أصبح مأساوياً، ورغم زيادة الرواتب والأجور فإن زيادة سعر الخبز والمازوت ستؤدي إلى ارتفاعات لاحقة في أسعار جميع السلع والخدمات، وقد أصبحنا نلمسها على أرض الواقع.

6-عدم الجدية في مكافحة الفساد والاكتفاء ببعض القضايا الصغيرة.

7-عدم جدية الحكومة في استلام محصول القمح، إذ ذهبت المحاصيل للتجار بعد رفعهم أسعار المحصول، والقادم ينذر بأزمة حقيقية في إنتاج الرغيف رغم اطمئنان الحكومة إلى التوريدات الروسية عبر عقود وصفقات وسمسرة.

8- تهاون الحكومة بفرض قيود محددة لمنع انتشار فايروس كوفيد 19 رغم انتشار الإصابات، واكتفت بتصريحات وإجراءات على الورق لم تأخذ طريقها للتنفيذ لجهة منع التجمعات، فرض ارتداء الكمامات، مراقبة وسائل النقل، رغم التحذير المستمر من قبل الكوادر الطبية. بل لجأت مؤخراً إلى فرض رسوم تبلغ 20 ألف ل.س للحصول على وثيقة التلقيح، ورفعت أسعار الدواء.

أما عن تفاعل الكادر الطبي والمستشفيات العامة وبعض المشافي الخاصة في التصدي لفيروس كورونا فكان مشرّفاً. وأثبت الجيش الأبيض للمرة الثانية في هذه السنوات أنه يدافع عن الوطن والمواطن بإخلاص ومهنية عالية، ويستحق بكل فخر تسميته الجيش الثاني خلف الجيش العربي السوري المدافع عن حياض الوطن، وقدم الكثير من الشهداء من خيرة أطبائه وممرضيه.

ألف تحية وإجلال لجيشنا العربي السوري الذي تصدى وما يزال يتصدى للعصابات التكفيرية الظلامية القادمة من كهوف التاريخ، وإلى جميع الشهداء من عسكريين ومدنيين، ونتمنى الشفاء العاجل للجرحى. وإلى الجيش الأبيض بجميع كوادره. وإلى طبقتنا العاملة في الجيش الخدمي.

و نحن نرى أن من أهم ما يجب فعله الآن هو الاستفادة من الدروس والعبر لهذه الأزمة والغزو الإرهابي، واعتماد السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تدعم صمود الشعب السوري، لا تلك التي تهمش مصالح الفئات الفقيرة والمتوسطة التي تشكل الداعم الرئيسي لجيشنا الباسل – إننا نؤكد هنا اقتراحنا الذي طرحناه مراراً، وهو الدعوة إلى مؤتمر وطني اقتصادي يهدف إلى مناقشة الأوضاع الاقتصادية، ووضع الحلول لإنهاض الاقتصاد السوري، ومعالجة الأزمات النقدية، خاصة بعد الارتفاع الكبير بأسعار القطع الأجنبي، وعجز الحكومة عن لجمه، وما ينتج عن هذا الارتفاع من تدهور للأوضاع المعيشية للمواطنين، بمشاركة خبراء الاقتصاد السوريين وممثلي القطاع الخاص المنتج والرساميل الوطنية، وأن تحال نتائج وتوصيات هذا المؤتمر إلى السلطة التنفيذية للمباشرة بتطبيقها.

 

في المهام

 

  • متابعة مجابهة العدوان الإمبريالي الصهيوني العثماني، وتحرير جميع الأراضي السورية المحتلة، سواء من إسرائيل أم من القوات الأمريكية وحلفائها، أم من تركيا العثمانية، أم من العصابات الجهادية والإرهابية الأخرى، والاستمرار في مكافحة الإرهاب بمختلف صوره، بجميع الوسائل. والتصدي لأي نوع من مخاطر تقسيم الوطن أو تجزئته أرضاً وشعباً، واعتبار هذه المهمة هي المهمة ذات الأولوية في المرحلة الحالية.
  • تهيئة جميع الوسائل والسبل لتحرير الجولان المحتل والوقوف في مواجهة جميع المحاولات الأمريكية والإسرائيلية الساعية لنزع هويته السورية عنه.
  • العمل من أجل التوصل إلى حل سياسي للقضية السورية يضمن استقلال الدولة السورية ووحدتها أرضاً وشعباً، في مواجهة جميع محاولات التفرقة أو التقسيم على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية.
  • معالجة القضايا المتعلقة بحياة الجماهير الشعبية، بما يضمن رفع مستوى معيشتها، من خلال زيادة دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والرعائي، وتحقيق التنمية الشاملة، بما يحقق العدالة الاجتماعية، وخاصة زيادة الأجور ووقف زيادة الأسعار والتلاعب بسعر القطع الأجنبي والتهريب والتهرب الضريبي والجمركي. وتأمين المواد والخدمات الأساسية للمواطن ومحاربة المحسوبيات والفساد وصيانة كرامات المواطنين وحرياتهم التي يكفلها الدستور.
  • إيلاء القضايا والجوانب الإنسانية وخاصة ما يتعلق منها بأوضاع النازحين والمهجرين وضحايا الحرب من أسر الشهداء والمعوقين والأطفال المشردين وغيرهم، مزيداً من الاهتمام والرعاية.
  • نؤكد دعوتنا لعقد مؤتمر وطني عام يضم جميع مكونات الشعب السوري وقواه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف طرح الأسس والوسائل العملية لإنجاز هذه المهام المطروحة أمام البلاد، وحشد جميع القوى الوطنية المخلصة في سبيل ذلك.

حلب 8 / 8 / 2021

العدد 1104 - 24/4/2024