نقاش حول التنمية

يونس صالح:

لم تحقق مشروعات التنمية عندنا في القطاعات الحكومية والأهلية الحد الأدنى الذي كانت منتظراً منها.. كما أن تقارير التنمية ودراساتها في ضوء ذلك تدخل عبر أنفاق ودهاليز نظرية وتطبيقية تثير جدلاً لا يوصل إلى نتيجة.. بيد أنني من وجهة نظر فكرية عامة أميل إلى مصطلح التنمية الشاملة، في حالتنا الراهنة على ما عداها، وأعني به بُعدَي التنمية الإنسانية البشرية، والتنمية المادية الاقتصادية العمرانية، فالكم والكيف لا ينفصلان في التطور التاريخي.. وعليه فالجانبان في التحليل النهائي متداخلان ومتكاملان، وأي مقاربة معرفية لمسألة التنمية بعقل علمي محايد ونهج متكامل لابد أن تأخذهما معاً بعين الاعتبار.

ومن هذا المنطلق أودّ تكثيف النقاط التالية بشأن الجذور والمشكلات المعيقة ذات الأبعاد المجتمعية والتاريخية لمسار التنمية في سياقها التاريخي، وما سأعرضه هنا لا يخرج بطبيعة الحال عن باب الاجتهادات الفكرية التي أود التعاون بالحوار على تصحيحها وإنضاجها بعيداً عن نهج بعض الفضائيات التي تحول حوار الفكر فيها إلى صراع ديكة!

أولاً- عندما ظهر مصطلح التنمية في خطابنا وانتشر، مطلع الستينيات من القرن العشرين، أخذ يتزاحم مع مصطلحين، تزاحما هما أيضاً من قبل، وهما مصطلح النهضة ومصطلح الثورة.

إن مصطلح التنمية مصطلح علمي واقتصادي وبشري محايد، لكنه في السياق في حينه بدا بديلاً عن النهج الثوري السائد الذي حاول أن يحقق تنمية متسارعة بأسلوبها للتعويض عما اعتبره تباطؤاً في التنمية من جانب الأنظمة التقليدية وشبه الليبرالية التي خرج عليها. إن هذا الملحظ يثير مناقشات قد لا تنتهي في تاريخنا السياسي المعاصر- بشأن الاستعاضة عن مصطلح ثورة بتنمية. لكني أكتفي هنا بالإشارة إلى أن الازدواج والتداخل المرحلي بين مفاهيم النهضة والثورة والتنمية في خطابنا جدير بالملاحظة.

ثانياً- كمحاولة تفسير أرى أنه من المفيد الملاحظة أن التنمية في المجتمعات الحديثة المتقدمة منها والنامية – والتنمية أصلاً مفهوم حداثة- لا يمكن أن تتواصل وتثمر إلا بعد أن تكمل هذه المجتمعات الحد الأدنى من شروط التحول التاريخي من المجتمع التقليدي، بتكويناته ونظمه وعصبياته القبلية والفئوية والطائفية والمحلية، إلى المجتمع الحديث الذي تديره دولة حديثة قائمة على معطيات مجتمع مدني قابل للتطور والانتقال إلى نظام ديمقراطي، وهذا الانتقال والتحول التاريخي لا يتحقق على قاعدة الحلول العاجلة أو (الثورية والانقلابية).

وثالثاً- لا يمكن القول إن هذا التحول التاريخي قد تحقق عندنا لتبدأ عملية التنمية الحقيقية على أساسه. مازلنا نعيش في ظل تشابك الأزمنة من قديمة ووسيطة وحديثة في المجتمع الواحد.. والمرحلة الواحدة.. وفي هذا الخليط التاريخي تصبح التنمية في بعض جوانبها تنمية للتخلف، التخلف الذي ينبغي وعيه والإقرار به وتشخيصه والعمل على تجاوزه.

ثمة إرث مجتمعي ضاغط ورثناه في البنى الذهنية والبنى الاجتماعية، وتشخيصه لا يمس أمجادنا التي دخلت سجلات التاريخ، لكنها ليست معطيات قوة ملموسة في الحسابات المعاصرة، وإنكار طبيعة هذا الإرث يمثل تهرباً من أخطر مشكلة تواجهنا.

ورابعاً وأخيراً، هل نحن إذاً أمام إشكالية تنمية، أم إشكالية تحول تاريخي من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث الذي لم ينجز في واقعنا، تحول تقوم على أساسه التنمية الصحيحة بعد ذلك، إن التذبذب في اشتباك الأزمنة، وتأجيل فواتير التاريخ المستحقة في الإصلاح الديني واستيعاب التفكير العلمي، والشروع في ممارسة الديمقراطية وعلاج أوضاعنا الداخلية الفاسدة، من أخطر ما يهدد مجتمعنا.

إن الإرث السائد للتنظيم المجتمعي عندنا هو ما ينبغي تشخيصه وعلاجه، هذا التنظيم التقليدي هو الذي يفرز مختلف أنساق الحكم التقليدية والراديكالية ومختلف أنساق (المعارضة) على السواء.

فـ(الرابطة القرابية) أصبحت واضحة في أكثرها، وتشير تقارير التنمية الإنسانية إلى (الهيمنة الأبوية) في مجتمعنا، من منطلق النزعة البطريركية، إلا أن ذلك هو تبسيط واختصار لواقع أعقد وأعم هو النسيج القبلي الموروث تحت جلد المجتمع المدني والدولة القائمة.

إنها أكثر من هيمنة أبوية، إن الهويات القبلية والطائفية تمثل غطاء يحتاج إليه الناس في بعض الحالات القلقة، ولكن علينا أن نقرر في سلم الأولويات هل نحن في دولة حديثة تستحق ولاءنا.. أم نعود إلى الوراء بالولاءات القديمة؟ وعليه فإن مشروعات الإصلاح الشامل التي لا بد لمجتمعنا منها في هذه اللحظة التاريخية، يجب أن تضع في اعتبارها الدفع باتجاه التحول التاريخي من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، قبل أن تحرث البحر بحثاً عن تنمية تحتاج إلى أرض صلبة من التحديث أولاً وقبل كل شيء.

 

العدد 1102 - 03/4/2024