الحرب والاحتكار والفساد أسُّ الجرائم كلها

إيمان أحمد ونوس:

الجريمة قديمة قدم الإنسان في الكون، لكنها زمن الحروب التي تُعتبر بحدِّ ذاتها جريمة بحق البشرية، تُجدّد حضورها نتيجة لأوضاع لا إنسانية يعيشها ويُعاني منها الناس كارتفاع نسب الفقر والتهميش والبطالة مترافقة مع غلاء فاحش وجشع لا تحدّه قيود، إضافة إلى ضعف أو انعدام الرقابة الأمنية في المجتمع، وتتمظهر تلك الجرائم بمختلف الاتجاهات كالسطو والقتل والسلب والنهب والاختطاف والاغتصاب وغيرها، إلى ما هنالك من جرائم بحق الفرد والمجتمع.

وبين الحين والآخر تتصدّر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي أخبار مخزية عن جرائم متعددة تُرتكب هنا وهناك بأيدي شباب في مُقتبل العمر، ولا شكّ أن السبب الرئيسي والأساسي هو الظروف الاقتصادية التي يعاني منها غالبية الناس وفي مقدمتهم أولئك الشباب الذين اغتيلت أحلامهم وطموحاتهم ومستقبلهم على يد حرب عبثية عشواء كانوا خلالها وقوداً ومحاربين لا ناقة لهم ولا جمل، وحين عادوا للحياة لم يجدوا سوى الخيبة والخواء المادي والروحي والنفسي الذي دفع ببعضهم إلى ارتكاب جرائم اندرجت غالبيتها في خانة القتل والسرقة للحصول على أموال بطرق غير مشروعة. والبعض الآخر قد يُقدم على الجريمة من أجل إطعام أفواه جائعة وستر أجساد عارية لا تقوى على إعالة نفسها في زمن طغت عليه الأنانية المطلقة من قبل وحوش وتجّار حروب وأزمات لا همَّ لهم سوى تكديس المزيد من الأموال على حساب تلك الأفواه والأجساد التي اغتالتها ظروف وتبعات الحرب التي قلّصت حق الفقراء والمهمّشين في غالبية الاحتياجات الضرورية للبقاء على قيد حياة شبه إنسانية.

كما نشطت تجارة الأعضاء البشرية وترويج وتعاطي المخدّرات حتى بين الأطفال الذين باتوا أبطالاً للكثير من السلوكيات والانحرافات التي تُصنّف في خانة الجرائم على فظاعة وقسوة هذا الوصف بالنسبة لطفل كان من الممكن أن يكون مُبدعاً في جانبٍ ما لو أُتيحت له البيئة المناسبة والرعاية اللازمة، أطفال أمسوا بين لحظة وأخرى ضحيّة حرب الكبار التي لا يدفع ضرائبها وفواتيرها إلاّ الصغار في المكانة المادية والاجتماعية، وصغار في العمر كأطفالنا الذين يُصنّفون عالمياً بالقُصّر أو الأحداث، وتوضع لهم قوانين خاصّة في حال ارتكابهم أيّ سلوك يُعاقب عليه القانون، مثلما تُخصّص لهم أماكن لرعايتهم ومعالجة سلوكياتهم المنحرفة التي أدّت بهم لارتكاب أفعال جرمية، أماكن تُسمّى معاهد إصلاح وتأهيل، يُفترض بها أن تضمّ مختصين للقيام بتلك المهمّة الإنسانية، لكن للأسف لا توجد لدينا مثل تلك المعاهد إلاّ بالاسم، ولهذا يُزجّ بهؤلاء الأطفال في أماكن بدل أن تعالجهم وتقوّم سلوكهم، تهملهم في أفضل الأحوال إن لم تُساهم في تعزيز سلوكياتهم السلبية بسبب ما يُلاقونه من تعنيف وسوء معامله تدفعهم إمّا للهرب أو لتعزيز الانحراف الذي يجعل منهم مستقبلاً مجرمون بامتياز. وهذا ما هو حاصل اليوم، والدليل ارتفاع نسب الجرائم التي يرتكبها أولئك الأطفال/ الأحداث من خطف واغتصاب وتعاطي المُخدّرات وغيرها!!

لم يقتصر الأمر على شرائح الشباب والأطفال، بل هناك كهول كبار دخلوا حلبة الإجرام بأبشع صوره من ذبح وقتل وخطف واغتصاب بلا أدنى شعور بالإنسانية ولا بالمسؤولية المادية والأخلاقية، ما ترك المجتمع في حالة ذُعر دائم وقلق مقيم زاد من معاناة الناس الذين هم غارقون أساساً في لجّة الفقر والبطالة والجوع والمرض والغلاء الذي جعل من أيّة حاجة حلماً بعيد المنال بسبب ما خلّفته الحرب من عوز ودمار وعقوبات لم تنتهِ حتى اللحظة، وكذلك بسبب مظاهر الفساد والرشوة في مختلف مفاصل المجتمع والمؤسسات الحكومية خاصّة، والذي بات أكثر جرأة ووقاحة وشراسة تحت ذرائع ومُسمّيات مشبوهة بحدّ ذاتها لا تقلُّ شأناً عمّا ارتكبته شرائح كانت قبل الحرب لاهية عابثة فأصبحت ذات شأنٍ بانضمامها إلى هذا الطرف أو ذاك فشكّلت طبقة مستحدثي النعمة كما يُقال والذين لم يرتوِ جشعهم وطمعهم بالأملاك الخاصة والعامة مترافقاً مع جشع ونهب تجّار الحرب الذين ضاعفوا ثرواتهم وأرصدتهم على حساب جوع وقهر وإذلال المواطن الذي تُرك وحيداً يواجه رياح وعواصف الحرب بكل أوجاعها وقهرها، ذلك أن الحكومات المتعاقبة خلال تلك الحرب وحتى اللحظة لم تكن سياساتها ولا إجراءاتها بالمستوى الذي تتطلبه كل تلك الظروف والسلوكيات والظواهر الاجتماعية التي انبثقت عن خلل قيمي وأخلاقي رهيب.

فإذا ما أمعنّا النظر بكل ما ذكرناه، نتلمّس مدى فظاعة ما خلّفته هذه الحرب، ومدى الخطر المُحدق بالفرد والمجتمع والدولة إن لم يتمّ تدارك التقصير والإهمال الحاصل على المستوى المجتمعي والرسمي. ولنعلم أن ترميم الإنسان وقيمه وأخلاقياته أكثر تكلفة وأصعب بكثير من ترميم المدن والمنشآت والمصانع.

هنا، على المسؤولين في مختلف مواقعهم ومناصبهم حين يصفون أو يُشرّحون الواقع بظواهره اللافتة، أن يحددوا الأسباب بدقة، وأن يتذكّروا الحقوق المشروعة لغالبية السوريين الذين دفعوا ضريبة هذه الحرب من قوت يومهم وعملهم ووجودهم الإنساني، فكان جزاؤهم المزيد من الفقر والذلّ والتهميش جرّاء الاحتكار والمُتاجرة بكرامتهم، بدل أن يحسّوا بإنسانيتهم كسوريين.

العدد 1102 - 03/4/2024