دفاعاً عن العلمانية

يونس صالح:

يكتنف مصطلح العلمانية بعض الغموض، فمن جهة الأصل اللغوي، يلاحظ أن اشتقاق العلمانية من العالم أصحّ من اشتقاقها من العلم، لأنها في أصلها الأجنبي ترمز إلى العالم الزمني، في مقابل الروحانيات اللازمنية التي يدور عليها الدين. إلا أنه لا يمكن استبعاد صلتها بالعلم، لأنه هو المظهر الأشد وضوحاً لاهتمام الإنسان بالعالم الزمني، ولذلك تبدو الضجة المثارة حول الأصل اللغوي لمصطلح العلمانية ضجة مبالغاً فيها، لأن كلّاً من المعنيين لابد أن يؤدي إلى الآخر. ومن جهة الأصل التاريخي، فإن اللفظ في الأصل تعبير عن وضع حضاري ظهر في أوربا منذ عصر النهضة، ومازال هو الذي يميز موقف الغرب من شؤون الدنيا والدين حتى يومنا هذا. والمشكلة بالنسبة إلينا تكمن في كيفية تفهّمه واستيعابه، مع اعتبار الفارق الحضاري بيننا وبين الشعوب الأوربية.

ولا بدّ لنا، لكي نعرض سمات العلمانية عندنا، من أن نميّز بين مرحلتين، الأولى هي العلمانية التي ظهرت في زمن الصدمة الحضارية مع الغرب، والثانية هي علمانية الحاضر، وأعني الربع الأخير من القرن العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين. فماذا يعني هذا التمييز؟ وماذا يترتب عليه؟

إنه تمييز منطقي ومفيد في التاريخ الاجتماعي للعلمانية في العالم الحديث، لأنه يتيح لنا أن ندرك كيف أن علمانية عصر النهضة كانت علمانية اقتحامية، واضحة المبادئ والأهداف، ومتماسكة العناصر والقوى، وكيف أن علمانية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين تحولت علمانية دفاعية غير موحدة القوى ومتراجعة أمام صعود التيار الإسلامي. ذلك أن السمات البارزة لعلمانية عصر النهضة كانت الإيجابية، بمعنى أنها كانت تسعى إلى بناء المجتمع على النموذج الغربي الحديث، والتكاملية، بمعنى أنها كانت تتناول جميع قطاعات المجتمع وأنظمته، والتحررية، بمعنى أنها كانت موجهة ضد السيطرة الأوربية، وليس فقط ضد الانحطاط والتخلف، إن علمانية عصر النهضة كانت تعبيراً عن مشروع حضاري متكامل، ولكن الوضع التاريخي العام تغير كثيراً بعد تحرر البلدان العربية من السيطرة الأجنبية، فالقضية المركزية أصبحت التنمية، ولم تعد الحركة العلمانية تياراً واحداً، ذلك أنها انقسمت إلى مذاهب قومية وليبرالية واشتراكية، واستفاد التيار الإسلامي من هزيمة حزيران 1967 لكي يستعيد زمام المبادرة وينتقل من موقع المطالبة بتعزيز دور الدين في المجتمع، إلى طرح مشروع شامل لهيمنة الدين على المجتمع تحت شعار (الإسلام هو الحل).

وهكذا فقدت علمانية النهضة زخمها، وحل محلها وضع تاريخي عام يفرض على العلمانية أن تكون (دفاعية في المقام الأولى).

لقد كانت المعركة بين التيار الإسلامي والاتجاه العلماني غير متكافئة، لأن جهاز الدولة لم يخض معركة ضد التيار الإسلامي على الصعيد الفكري، بل على صعيد الصراع على الحكم، فيتصلب حفاضاً على نفسه، وفي ماعدا ذلك فإنه يساعد التيار الإسلامي بصورة مباشرة أو غير مباشرة بهدف إضعاف الحركات الديمقراطية واليسارية، أو بهدف إغراق الجماهير في مشاعرها وطقوسها الدينية المشبعة بأخلاقيات الطاعة والصبر وانتظار الرحمة من الله. والجماهير بطبيعة الحال أشد استعداداً لتقبل خطاب الإسلاميين، لعجزها عن التفكير النقدي، فلا أمل في أن يصدر منها أي مساندة لمن يصادف أن يرميه الإسلاميون بتهمة الكفر، وإذا كان الأمر كذلك، فما العمل؟

إن الانتقادات التشويهية للعلمانية في كتابات الإسلاميين تنقسم إلى فئتين كبيرتين، هما الانتقادات الخطابية، والانتقادات العلمية. الانتقادات الخطابية لا ترتكز على حجج مستمدة من الواقع ومدعومة باستدلال برهاني، فهي أشبه باتهامات للتشنيع وإثارة السخط لدى الجمهور، تكمن خطورتها في انتشارها الواسع وفي إسهامها في ترسيخ عقلية التسليم والتصديق تبعاً للانفعال بدلاً من التدقيق العلمي. وفي مقدمة الانتقادات للعلمانية تصويرها مرادفة للفكر اللاديني.. وهناك ما يشبه الإجماع بين مفكري التيار الإسلامي المعاصر على الربط بين العلمانية واللادينية، وهذا في الواقع أقوى أسلحتهم وأشدها تأثيراً في نفوس الأتباع، بيد أن القول بأن العلمانية تريد إقصاء الدين من الحياة الروحية والأخلاقية من خلال طرحها فصل الدين عن الدولة هو مجافٍ للحقيقة. فليس هناك بالضرورة من ربط بين العلمانية والمذهب المادي. إن فصل الدين عن الدولة لا يستلزم بالضرورة تبني الفلسفة المادية، والدليل التاريخي على ذلك موجود في أوربا العلمانية، حيث لايزال الدين حياً في العقيدة والأخلاق. أما الانتقاد الثاني للعلمانية في كتابات الإسلاميين فهو يرتكز على الربط بينها وبين المؤامرة. هناك ما يشبه الإجماع بينهم على أن العلمانية مؤامرة على الإسلام، وأن لهذه المؤامرة مصدراً أجنبياً، وأن دعاة العلمانية في العالم الإسلامي إما مشاركون بوعي في هذه المؤامرة، وإما أداة ساذجة في أيدي القوى الأجنبية التي تتآمر على الإسلام. فما قيمة هذا الانتقاد؟ لقد اختارت أوربا طريق العلمانية، ومن الطبيعي أن تدافع عن خيارها. فهل العلمانية بهذا المعنى ظاهرة أوربية حصراً، أم أنها ظاهرة صالحة لكل القارات والشعوب في هذا العالم؟ هذا هو السؤال الحقيقي.

إن المحور الذي تدور حوله جميع الانتقادات العلمية الموجهة إلى العلمانية هو الربط بينها وبين ظروف المجتمع الأوربي في مرحلة معينة من تاريخه. إن هذا الانتقاد قوي في الظاهر، إلا أنها حجة باطلة في مجملها، فمسألة الحريات التي أصبحت من مكتسبات البشرية في ظل الحكم العلماني، ستضيق حتماً في حال ربط السياسة بالدين، لأن الحكم الديني يضفي صفة القداسة على الحكام، ويحارب حرية الاعتقاد والتفكير، أما من حيث قيمة الإنسان في السياسة، فإن التعارض واضح بين الحكم الديني والحكم العلماني في شأنها. العلمانية لا تؤله الإنسان، ولكنها تنطوي على تقدير أساسي لمكانته وقدراته العقلية وحريته. أما خصوم العلمانية فإنهم يحملون في داخلهم قدراً هائلاً من الاحتقار للإنسان. لا يعلنونه على الملأ، وربما لم يكونوا على وعي تام به، ولكنه كامن في صميم تعاليمهم، ومن هنا إخفاؤهم لمخاطر الاستبداد الذي ينطوي عليه مبدأ الحاكمية الإلهية في السياسة.

وأخيراً لابد من القول إن التشدد الصريح الصارخ الكاشف على أن العصور الوسطى أسلوب في التفكير موجود في مجتمعنا، ويطغى عليه التفكير الغيبي السلطوي، وأن العلمانية طريق للتحرر من هذا الطغيان.

 

العدد 1104 - 24/4/2024