ماذا نقول لهم؟!
حسين خليفة:
أتردّد على صالون الحلاقة الذي افتُتح في الحي الشعبي بتحويل غرفة من منزل العائلة إلى محلّ كما جرت العادة في هذه الأحياء.
لا يتطلب الأمر سوى إزالة الجدار المحاذي للشارع (وهو غالباً زقاق) وإغلاق الباب المتصل مع باقي غرف المنزل من الجهة الأخرى، مع ديكورات بسيطة.
لذلك تفاجأ كلّ فترة بمحلٍّ جديد يفتح بهذه الآلية لتسند به العائلات وضعها المادي الذي يزداد تدهوراً في ظلِّ تفاقم الأوضاع الاقتصادية، وهبوط وضع الفئات الفقيرة إلى ما تحت تحت خطّ الفقر، ممّا يجعل مواجهة وحش الغلاء معركة خاسرة سلفاً.
الشاب الصغير فعلاً يستقبلك هاشاً باشّاً، وهو من القلائل من أبناء جيل الشباب الذين يعاملون كبار السن باحترام خاص، كما يتميّز عن غيره من أبناء المهنة بأنه يرضى بالقليل على قول المثل الشعبي.
وفي أحاديث الحلاقين المعروفة مع الزبون تبدأ حفلة التعارف بينما هو يجزّ ما تبقى من شعرك الذي أسقطته سنوات العمر وربما القهر أو بعض أنواع الشامبوات والزيوت الرخيصة.
علمتُ أنّه حمل السلاح في بدايات الأزمة، بينما لم يكن عمره قد تجاوز ثلاثة عشر عاماً، مع أحد التشكيلات التي تشكّلت مع بداية الحرب واتخذت أسماء عدة، كان يهرب من المدرسة، كما قال، ليتلقى تدريباً سريعاً ومختصراً عندهم دون أن يخبر أهله، ثم تطوع معهم تاركاً الدراسة خلفه، ريثما بلغ الثامنة عشرة فدخل ميدان التطوع النظامي لأنه لا يقبل من هم أقل من هذا العمر في التشكيلات الرسمية.
ونتيجة شحّ الرواتب، ولأنه لم يدخل مجالات التعفيش والابتزاز التي تدرّ أموالاً طائلة على ممارسيها، فقد ارتأى هو وأهله هذا الحل، فتح محل حلاقة في الحي ليسند أوضاعهم المتهالكة كما سائر السوريين.
أمس سألته عن طموحه الآن، بعد كل الخراب الذي حصل، فأجاب: لو أستطيع فقط أن أنال الموافقة على التسريح لخرجتُ من البلد في اليوم التالي إلى أي بلد تستقبلني.
جواب الشاب الطيب الخلوق هو الجواب الذي يتردّد على لسان معظم، إن لم نقل كلّ، شباب وشابات سورية للأسف.
ولو أتيح لهم الخروج لما رأيت في شوارعنا سوى العجائز للأسف.
والسبب واضح ومعروف، ولا نكتشف جديداً حين ننشره.
إنّه انسداد الأفق أمام شبابنا، حتى الذين اندفعوا منهم بدوافع وطنية فطرية إلى الانخراط في الحرب كهذا الشاب مثلاً، وهم كثر.
فالرواتب يمكن اعتبارها صفرية (أقل من 25 دولاراً في الشهر)، وتكاليف معيشة أصغر عائلة تجاوزت المليون ونصف المليون ليرة!! فأي شيء يردم الهوة السحيقة بينهما؟!
الهجرة تحولت إلى حلم وحيد أمام غول الغلاء، ولم يبق أي عمل إضافي ثانٍ أو ثالث (حركت الحكومة كما تردد مؤخرا قراراً نائماً بمنع ممارسة الموظف لعمل آخر) قادراً على سد جزء من تكاليف المعيشة، وبالتالي اضطرت العائلات إلى حذف الكثير مما تستطيع الاستغناء عنه، رغم ضرورته، من قائمة مشترياتها.
لم اسمع ولم أقرأ أنّ الحكومة والمنظمات الشبابية التابعة لها فعلت شيئاً على الأرض لربط الشباب مع الوطن، وتشجيعهم على البقاء، بل استمر نزيف الشباب والكفاءات، فيما استمرت بالمقابل مهرجانات الكلام والتنظير دون أي فعل على الأرض كما هو حال حكامنا في المجالات الأخرى.
السفينة تغرق وعازفو الفرقة يتابعون عزفهم حتى تغمرهم المياه، ماتوا وهم يعزفون.
هذا المشهد المعروف في فيلم التايتانيك يعبّر فعلاً عن حالنا نحن السوريين الباقين في البلد، وعن حال شبابنا بشكل أكبر.
كيف نطالبهم بالاستمرار في عمل لا يطعمهم فضلاً عن أن هذا الدخل لا يتيح لهم تأسيس أسرة ومنزل ولو عاشوا مئات السنين؟!
هنا لا منظمات دولية تقدم شيئاً، فرصة لحياة ممكنة ولا أقول كريمة لأنها بعيدة المنال.
هنا الحكومات غائبة عن الوعي، وجلّ اهتمامها هو البحث عن طرق جديدة ومبتكرة لنبش جيوب رعاياها ونهب آخر ما تبقى لهم من مدخرات إن بقيت.
هنا حتى الصراخ يكلّفك الكثير، وربما كلّفك حياتك.
هنا ليس مكاناً صالحاً للعيش.
لذلك أشدّ على أيدي شبابنا الذين يريدون النجاة بأنفسهم كحل فردي يقيهم غائلات الجوع والتشرّد والذل على أبواب الأفران والمؤسسات للحصول على ضروريات الحياة من غاز أو مازوت أو خبز أو بنزين… إلخ.
أشدّ على أيديهم وأنا أبكي على بلاد تفرغ من شبابها وشاباتها، من الطاقات التي يعوّل عليها في ترميم الخراب، وأتحرّق شوقاً ليوم تأتي فيه حكومة تلتفت إلى ناسها قبل أن تلتفت إلى جيوبهم وتقول: هؤلاء بشر ومهمتنا كحكومة أن نؤمِّن لهم الحد الأدنى من متطلبات الحياة.
حينئذٍ فقط لا داعي لأن نقول لشبابنا ابقوا في وطنكم، سيعود الذين غادروا أيضاً ويشرعون في بناء الوطن الحلم.
لكن متى يتحقق هذا؟
يتحقق فقط بأن يبصر الحلّ السياسي الشامل النور، بأن يتحقق حلم السوريين ببناء وطن صحيح معافى، وطن حرّ موَّحد ديمقراطي علماني لكل السوريين.