سورية.. المجتمع والدولة و(المشكلة الكردية)
د. أحمد ديركي:
صدر للدكتور منير الحمش كتاب بعنوان (سورية… المجتمع والدولة و(المشكلة الكردية)) بطبعته الأولى 2021، عن دار مدن للنشر والطباعة والتوزيع، وقدّم له الدكتور جورج قرم.
أوضح د. قرم، في تقديمه للكتاب، الخلفية الفكرية للمؤلف، د. الحمش، يقول د. قرم: (الدكتور منير الحمش من الشخصيات الجريئة وذات المواقف الثابتة، الاشتراكية الطابع) (ص. 5) أي إن د. الحمش قارب المسألة السورية من خلفية فكرية (اشتراكية الطابع).
عمل د. الحمش في كتابه معتمداً على أسس منطلقاً من (البداية هي في معرفة حقيقة المشكلات) (ص. 11) أي لمقاربة أي مشكلة لابد من أولاً من معرفة حقيقتها، ومن ثم يمكن طرح التساؤلات حول إمكانيات الحل. كما أوضح في مقدمته، لكتابه، بعض الكلمات المفتاحية التي استخدمها، ومنها على سبيل المثال (المسألة الشرقية) معرّفاً إياها على أنها (قضية التوسع الاستعماري الغربي على حساب الامبراطورية العثمانية…) (ص. 11)، موصفاً المشهد في مطلع القرن العشرين (أهم ملامحه نضال الشعوب من أجل استقلالها… اتسم هذا النضال في الوطن العربي بانبعاث الوعي القومي العربي، وتبلور المشروع النهضوي القومي) (ص. 11 – 12) وكأن المشروع القومي العربي، كان موجوداً من قبل هذا، ثم غاص إلى الأعماق ثم عاود رجعته، ويظهر هذا من كلمة (انبعاث الوعي القومي…)، لكن المفارقة تكمن فيما يأتي من الجملة التالية (وقد انحاز القادة العرب في ذلك الوقت إلى جانب الغرب الاستعماري) (ص. 12)، فكيف يمكن للنضال (من أجل الاستقلال) وفي الوقت عينه (انحياز… إلى جانب الغرب الاستعماري)؟
إضافة إلى هذا يقول د. الحمش (الغرب الأوربي… كان على التوازي يعمل من أجل المشروع الصهيوني…) (ص. 12). وهنا يطرح المؤلف سؤال إشكالي يحمل العديد من التفسيرات فيقول: (لماذا سكت أو رضي قادة العرب بهذه المعادلة غير العادلة؟) (ص. 12)، ولكن المؤلف لم يعطِ إجابة! ويبدو أن الإجابة واضحة من الجملة السابقة التي يقول فيها (انحياز القادة العرب…) إلا إن كان هناك تأويل آخر في ذهن المؤلف ولا يريد الإفصاح عنه! أمر يضعنا أمام إشكالية أخرى بالنسبة لمسألة (انحياز القادة العرب… في حينها) وهي: هل انفك هذا (الانحياز) أم ما زال قائماً بصيغ مختلفة؟
ويكمل المؤلف بطرح أسئلته الإشكالية من دون أي تلميح للإجابة عنها، ويسأل: (ويتساءل المرء من خلال هذا المشهد لماذا يظل (قادة) العرب على ثقة بالغرب الأوربي ثم الأمريكي؟ هل هو جهل؟ أم عمالة؟ أم كلاهما؟) (ص. 12)، ويكمل من دون مقاربة الإجابة برسم المشهد وكأنه يقول للقارئ: عليك استنتاج الإجابة. مع لحظ أن تعبير (ثقة) في السؤال غير موفق الاختيار من قبل المؤلف، وبخاصة كونه (اشتراكي الطابع)!
بعد عرضه للمشهد يقول: (المهم أن يتحقق للغرب الأوربي، وأمريكا وإسرائيل، رغبتهم في اجتثاث القومية العربية، والقضاء على الهوية العربية) (ص. 15)، ما يقودنا إلى استنتاج وكأن مشكلة (الغرب) مع (الشرق) يكمن جوهرها في المسألة القومية! وهل الصراع ما بينهما صراع قوميات؟ وكأن المؤلف هرب من كلمة (حضارة)، بالمعنى الهانتونغي، ليستبدل بها (قوميات)!
عند محاولة طرح الحلول يقول د. الحمش (لماذا ذلك كله؟ سيظل هذا السؤال يحير الناس… وسيكون هناك إجابات عديدة وسيلامس بعضها الحقيقة، إلا أن (قطبة مخفية) ستظل محيرة، دون أن تستكمل حلقة الإجابة الكاملة) (ص. 16) ما يعيدنا إلى مفهوم (اليد الخفية) والسقوط بالفكر الغيبي! ولأن المؤلف خبير اقتصادي فقد تكون (القطبة المخفية) في ذهنه توازي تعبير (اليد الخفية) عند آدم سميث!
يختم المؤلف مقدمته لعمله موضحاً فيها الهدف من هذا الكتاب بالقول: (حاولت في هذا الجهد المتواضع أن أضيء بعض جوانب ما تتعرض له سورية منذ استقلالها.. علني أسهم في تحريض آليات الحوار الداخلي الهادف إلى إيجاد المخارج الممكنة للأزمة…) (ص. 13).
كان هذا عرضاً موجزاً لبعض ما جاء في المقدمة، فماذا عن الكتاب؟
مجموع صفحات الكتاب 584 صفحة، ومقسم على الشكل التالي: مقدمة كتبها الدكتور جورج قرم، مقدمة المؤلف، الفصل الأول: التأسيس والمحتويات، الفصل الثاني: المجتمع والدولة، الفصل الثالث: الاقتصاد السياسي (للأزمة/الحرب)، الفصل الرابع: المشكلة الكردية، المصادر والمراجع، نبذة وأعمال المؤلف.
يذكر المؤلف في الفصل الأول أن تشكّل سورية أتى (نتيجة لسيرورة سياسية ومسار استراتيجي فرضته الظروف المستجدة من خلال المطامع الأوربية) (ص. 26) أي أن نشوء سورية ككيان سياسي مستقل لم يكن ناجماً عن (عملية (سياسية – اجتماعية – اقتصادية – ثقافية) نابعة من الداخل السوري) (ص. 26)، ولتوضيح هذه الفكرة يذهب المؤلف إلى تحديد المفاهيم بالنسبة لنشوء الدولة، بالمفهوم الحديث، موضحاً من بعدها الظروف التي أدت إلى نشوء سورية. ولكنه لم يوضح ما ينتج عن هذا الشكل من التشكل على المستوى الداخلي للدولة، وطبيعة علاقاتها مع الخارج.
ثم يضع المؤلف التحديات التي واجهتها سورية عند استقلالها، فقد (كان على الشعب أن يبني دولته الجديدة في مواجهة التحديات التي أفرزتها وواجهتها مجموعة الظروف المحيطة…) (ص. 41). ويبدو وكأن الشعب هو المسؤول عن عملية البناء! وهنا أيضاً مفارقة مفادها إن كان النشوء، وفقاً لرأيه غير طبيعي، فهل كان هناك شعب بمفهوم الشعب! نعم الشعب شريك في عملية البناء لكنه ليس الشريك الوحيد، فماذا عن دور القيادات السياسية، والتحالفات الداخلية والخارجية؟
ومن ثم يذهب المؤلف إلى وضع أهم القضايا المطروحة في بداية عهد الاستقلال، والتي لا تزال (تعشّش) في دهاليز السياسة السورية وفي كواليس الأجهزة الخارجية… تلك القضايا القديمة – الجديدة – المتجددة هي:
1) مسألة الدولة والهوية والانتماء الوطني والقومي والسيادة.
2) قضية فلسطين والصراع العربي – الصهيوني.
3) الصراع الدولي على المنطقة العربية وعلى سورية بوجه خاص.
4) مسألة الخيار التنموي الاقتصادي والاجتماعي (ص. 41 – 42). ثم يتناول كلاً منها بالتفصيل، ولكن رغم كل التفصيلات المعروضة والصفحات المتتالية نبقى من دون تلمس أي إجابة عن الأسئلة المطروحة، ومنها مثلاً ما دامت هذه “القضايا… (تعشّش) حتى الآن، فلماذا لم تحل حتى تاريخه؟ لا نختلف على دور الخارج، فماذا عن دور الداخل في عدم حلها؟ أم أنه كان يستغلها، كما يستغلها الخارج، لتحقيق مصالحه؟
وها نحن نعود إلى المربع الأول (والآن… (أوائل عام 2021) وبعد مضي أكثر من قرن من الزمن، ما زلنا نبحث عن الاستقلال والوحدة…) (ص. 76). عجيب أمر هذا الخارج (السوبرماني) الذي هيمن وشوه ودمر الداخل لمدة قرن من الزمن والداخل ما زال غافياً في قمقمه! إلا أن المؤلف يفرد أقل من سطرين عن دور الداخل فيقول: (… يصول ويجول تجار الحرب والأزمات في طول البلاد وعرضها مخلفين وراءهم الجوع والعطش… تحت أنظار وحماية حكومة بيروقراطية ضعيفة) (ص. 77)! ويكمل مفرداً صفحات تلو الصفحات لوصف دور الخارج معيداً السبب في كل ما يجري إلى (تمسك سورية باستقلالها وحريتها وبالقومية العربية) (ص. 78).
ثم يعود مجدداً في الفصل الثاني إلى توضيح مفاهيم مفتاحية منطلقاً من ابن خلدون ليصل إلى غرامشي ومن بعده إلى بعض المفكرين العربي حالياً، فيعرّف (مجتمع) و(سيادة)… ويعود مجدداً إلى قضايا أساسية ويقول: (… رغم النص في الدستور بعد الاستقلال على أن سورية جزء من الامة العربية… بقيت مسألة الهوية المرتبطة بالكيان السوري الذي رسمت حدوده الجغرافية القوى الاستعمارية. بقيت هذه المسألة مشوبة بالالتباس…) (ص. 107). وأيضاً اللوم في هذه الالتباس يعود إلى الخارج، وتفرد صفحات وصفحات لهذا اللوم!
ومن ثم يحاول المؤلف تلمس بعض من سمات المجتمع السوري ومنها (التعددية… الهوة واسعة بين المجتمع السوري والمجتمعات الصناعية المتقدمة) (ص. 111) مقسماً شرائحه الاجتماعية إلى (الطبقة الأرستقراطية العليا… الأرستقراطية الدنيا أو الصغرى… البرجوازية… الكادحة الدنيا… شبه الكادحة…) (ص. 114 – 115) ومن ضمن توصيفاته للطبقة البرجوازية (… لعبت دوراً في فكرة القومية العربية والوحدة العربية والاستقلال عن الدولة العثمانية) وهنا يطرح السؤال: هل يوجد برجوازية وطنية؟ وإن وجدت فما مفهوم (الوطنية) لديها؟ أما عن الكادحة فيقول: (لم تكن طبقة بالمعنى الصحيح، لأنها لم تكن واعية ولا منظمة، لذلك كانت أقرب إلى الشريحة والفئة منها إلى طبقة) (ص. 114). حبذا لو أن المؤلف قد أفرد بضعة أسطر حول مفهوم (طبقة) لنفهم ما المقصود بقوله (لم تكن طبقة بالمعنى الصحيح)!
بعد ذلك يذهب د. الحمش إلى المسألة الدستورية ليوضح المنطلقات الاقتصادية (دستور 1973 كان ينص… على أن الاقتصاد في الدولة اقتصاد اشتراكي مخطط… في حين نصت المادة 13 في الدستور الجديد على أن الاقتصاد الوطني يقوم على أساس تنمية النشاط الاقتصادي… وهكذا استبعدت كلمة (اشتراكية)) (ص. 165). المشكلة ليست في استبعاد كلمة (اشتراكي) كون الاقتصاد السوري، كما يراه المؤلف، (لا هو اشتراكي ولا هو اقتصاد سوق اجتماعي… واضح ميل السياسة الاقتصادية الحكومية نحو السياسات الموصى بها من المؤسسات الدولية والاتحاد الأوربي…) (ص. 166) أي أن الاقتصاد السوري في الأصل لم يكن (اشتراكياً) بالمعنى الصحيح للمفهوم وكان ذكر كلمة (اشتراكي) في النص الدستوري مجرد كلمة فارغة المعنى، والآن لم يعد لها من مبرر للوجود!
وبالنسبة للحزب الحاكم يرى د. الحمش أن (إلغاء المادة الثامنة من دستور 1973… شبه شكلي لأن الحزب كان، ولا يزال، يمارس هذا الدور…) (ص. 166) من دون أن يطرح المؤلف إشكالية إن كان هذا الحزب اشتراكياً أم لا؟ وما موقفه حالياً من الاشتراكية؟ وبكونه (ما زال حاكماً) لماذا شطبت كلمة (اشتراكي) من الدستور؟ ومدى فعالية النصوص الدستورية في سورية؟
من أبرز ما جاء في الفصل الثالث عودة التأكيد على (أن ما جرى، ويجري، في سورية إنما يتم في إطار الرغبة الأمريكية… (و) مشروع الشرق الأوسط الكبير…) (ص. 198). ومن المفاراقات الأخرى العديدة، والمتعددة الواردة في الكتاب، (أن اقتصاد السوق والسياسات الليبرالية الجديدة التي بدأت سورية في انتهاجها… منذ التسعينات من القرن الماضي… تهدف… (إلى) إضعاف سيطرة الدولة على الاقتصاد وحرف عملية التنمية عن أهدافها الاجتماعية) (ص. 207) فهل هذا يعني أن (الدولة) السورية تعمل وفقاً للخطة الأمريكية؟ هل يريد المؤلف للقارئأن يستنتج هذا؟ أم هناك أمر آخر يخفيه المؤلف ليشرع الأبواب أمام كل الخيارات الممكنة؟ ليعود مجدداً إلى القول إن هذه الخيارات الاقتصادية هيأت (المناخ المناسب لاتساع دائرة الساخطين والمحبطين، والذين أصبحوا يشكلون الوعاء الذي تنمو فيه بذور الفتنة والتطرف) (ص. 214). ومن هنا بدأت الدعوات التكفيرية…) (ص. 214).
يطرح المؤلف حلولاً للأزمة انطلاقاً من النقاط التالية: إعادة الأمن الشخصي… نزع السلاح… إعادة إدماج وتأهيل السكان المهجرين… إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة… الاحتلال الاسرائيلي… العلاقات السياسية والدبلوماسية مع العالم الخارجي… الجهود السياسية والدبلوماسية يجب أن تبذل من أجل الحصول على تعويضات مناسبة… (ص. 262) وبالنسبة للاقتصاد (القضية ليست قضية توفر عناصر القوة الاقتصادية… ولكن القضية تكمن في كفاءة إدارة واستخدام هذه العناصر…) (ص. 263).
ويختم كتابه بالقضية الكردية مفرداً لها فصلاً كاملاً تحت عنوان (المشكلة الكردية)، فيقارب فيه جذور المشكلة الكردية في سورية، محذراً مما يطرح حالياً ومنها (مسألة (الإدارة الذاتية)… (كونها) مسألة سياسية… تجربة الإدارة الذاتية التي يجري تطبيقها الآن… جزء من (مشروع الشرق الأوسط الأوسع)… يبرز دور المطامع الصهيونية…) ويعود هذا إلى (أهمية المنطقة الجغرافية: 1) الموقع الجيوسياسي… 2) ما تملكه من إمكانيات وموارد طبيعية هائلة… العنصر الكردي هو الغالب… خدمة الأهداف الأوربية…) (ص. 347).
ويعود المؤلف في خاتمة الكتاب لتوضيح هدف الكتاب على أنه (موقف محذر لجميع الأطراف من السير قدماً في المشروع التقسيمي الأمريكي – صهيوني) (ص. 370).
كان هذا عرضاً موجزاً للكتاب وما ورد فيه. كتاب يحوي على معلومات قيمة يستحق القراءة لتوضيح بعض معالم الأزمة السورية، انطلاقاً من جذورها التاريخية وصولاً إلى سبل حلها.