العَلمانية بين الحقيقة والتشويه!
طلال الإمام_ ستوكهولم:
تدور بين فينة وأخرى نقاشاتٌ وأخذٌ وردّ في مختلف وسائل الإعلام حول العّلمانية بين مؤيد ورافض لها، وهناك من يلصق بها اتهامات هي منها براء. سنحاول، في هذه المداخلة التي قدمت كمساهمة في الحوار الشهري الذي نظمه التجمع العربي للتنوير، تناول مختلف الجوانب المتعلقة بالعلمانية.
أولاً_ العلمانية ليست إيديولوجية بذاتها وإنما هي وسيلة للحكم. هي مثل مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان. من هنا نجد أن جميع الأحزاب اليسارية، اليمينية أو الوسط، تنادي بالعلمانية طبعاً، مع تباينات هنا وهناك.
ثانياً_ ثمة مبادئ عامة للعلمانية تصلح لجميع البلدان والمجتمعات، بمعنى ليس هناك علمانية عربية وأخرى أوربية أو إفريقية.
ثالثاً_ تطبيق العلمانية يبدأ بإقرار دستور علماني يحقق المساواة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن الانتماء الديني أو الطائفي، وعلى الجميع الالتزام به، على أن يترافق هذا بمناهج تعليمية مدنية وعلمانية، وأن تُدرَّس الديانات ضمن منهاج العلوم الاجتماعية، وفي الوقت ذاته القيام بحملة توعية علمانية مجتمعية للجميع حول المفهوم الصحيح للعلمانية.
رابعاً_ لم تمرّ عملية إقرار دستور علماني في البلدان التي تسير على هذا النهج بسهولة، لأن السلطة الدينية لا تريد التخلي عن سلطتها وامتيازاتها.
خامساً_ ما هو المفهوم الصحيح للعلمانية؟ من المختلف عليه وضع تعريف واحد للدولة العلمانية، لكنها تعني باختصار المبدأ القائم على فصل الحكومة ومؤسساتها والسلطة السياسية عن السلطة الدينية، كما تكفل عدم تبنّي دين معين كدين رسمي للدولة.
سادساً_ نشأة العلمانية
تعود جذور العلمانيّة إلى الفلسفة اليونانيّة القديمة، وأقدم التلميحات للفكر العلماني تعود للقرن الثالث عشر في أوربا، حين دعا مارسيل البدواني إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية، غير أن العلمانية لم تنشأ كمذهب فكري وبشكل مطرد إلا في القرن السابع عشر، ولعلّ الفيلسوف سبينوزا كان أول من أشار إلى أن الدولة هي كيان متطور وتحتاج دوماً للتطوير والتحديث على عكس الشريعة الثابتة الموحاة، وتبعه الفيلسوف الإنكليزي جون لوك الذي تحدث عن ضرورة أن تكون الدولة متسامحة مع جميع أشكال الاعتقاد دينياً أو فكرياً أو اجتماعياً، ويجب أن تنشغل في الإدارة وحكم المجتمع فقط.
في العصر الحديث أول من ابتدع مصطلح (العَلمانية) هو الكاتب البريطاني (جورج هوليوك) في منتصف القرن التاسع عشر عام 1851 يقول جورج هوليوك:
(لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية، هي فقط مستقلة عنها، ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها، المعرفة العلمانية تهتم بهذه الحياة، وتسعى للتطور والرفاه، يمكن القول إن العلمانية ليست إيديولوجيا أو عقيدة بقدر ما هي طريقة للحكم، ترفض وضع الدين أو سواه كمرجع رئيسي للحياة السياسية والقانونية، وتتجه إلى الاهتمام بالأمور الحياتية للبشر بدلاً من الأمور الغيبية).
نشأت العلمانية في أوربا على أثر دخول الكنيسة ورجال الدين فيها في صراع مرير مع الجماهير الأوربية، بسبب تحولّ رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الدين، ودخلت الكنيسة أيضاً في نزاع طويل وحاد مع الأباطرة والملوك لا على الدين والأخلاق ولكن على السلطة والنفوذ، كذلك الصراع بين الكنيسة والعلم ووقوفها ضد العلم وتشكيلها لمحاكم التفتيش وقتل العلماء.
سابعاً_ تدور الآن سجالات عديدة في مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حول العلمانية. كما بدأت تتشكل منتديات ومواقع علمانية، إضافة إلى تعالي صوت العلمانيين وإن بشكل خجول في العديد من البلدان العربية: مصر، سورية، لبنان، العراق، تونس، والمغرب، التي عانت في السنوات الأخيرة، ومازالت تعاني، من عنف التيارات الدينية المتشددة والسلفية.
لكن وكما كل نقاش حول ظاهرة اجتماعية جديدة، تظهر خلال السجالات آراء متنافرة، متباعدة، جيدة، مضرّة، خبيثة وبريئة.
من الممكن ملاحظة عدة اتجاهات لدى تناول هذه المسألة:
* هناك من يتناولها بشكل صحيح، موضوعي، مبتعداً عن كل ما يسيء للفكرة، كما يساهم في توضيحها بالكلمة أو الفعل. هؤلاء لا يدخلون في نقاشات جانبية بعيدة عن العلمانية، لا يمارسون أي استفزاز لمشاعر الناس سواء كانوا مؤمنين أم لا. يسعون قدر الإمكان إلى إعطاء هذا المفهوم حقه في التوضيح والنقاش الموضوعي بعيداً عن أي تجييش أو تشنّج.
* هناك من يربط العلمانية بالإلحاد والتفسخ الأخلاقي ويشن حرباً شعواء ضدها.
* وهناك من تعني العلمانية له مهاجمة الأديان والطوائف الأخرى وتبييض صفحة دينه أو طائفته.
* هناك من يخلط بين العلمانية والقومية أو الوطنية.
* هناك من يعتبرها إيديولوجية للحكم وليست وسيلة لإدارة المجتمع.. وما إلى ذلك.
أعتقد أن العلمانية، بتبسيط شديد ودون الدخول في الأسس التاريخية أو في مفهوم المصطلح أكاديمياً، كما أراها تقوم على:
* فصل الدين عن مؤسسات الدولة كلها: التشريعية، السياسية، والاقتصادية وعن التعليم بشكل خاص.
* عدم تسييس الدين وعدم تديين السياسة. بمعنى كفّ تدخّل رجال الدين في شؤون الدولة ومؤسساتها، وحصر دورهم في دور العبادة.
* إلغاء مفهوم الأقلية والأكثرية الدينية أو الطائفية من الدستور، والتعامل مع جميع مواطني الدولة بمساواة، لهم الحقوق ذاتها وعليهم الواجبات ذاتها، بمعنى من حق أي مواطن شغل أي منصب في الدولة، بغض النظر عن انتمائه الديني أو الطائفي أو غيره، سواء كان رجلاً أم امرأة. والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان، والطفل والمرأة استناداً للمواثيق الدولية.
* العلمانية تكفل حق المتديّنين في ممارسة شعائرهم الدينية في دور العبادة بحرية تامة.
* الدولة العلمانية تمنع تأسيس أحزاب على أسس دينية أو طائفية.
* من الضروري تخليص البرامج التعليمية في المراحل كافة من أية بروباغندا أو تجييش ديني، وتدريس الديانات كجزء من مادة العلوم الاجتماعية، مع ضرورة إلحاق كل المدارس الدينية بوزارة التربية والتعليم وإلزامها بتدريس منهاجها فقط.
* إفساح المجال أمام العلمانيين للوصول إلى وسائل الإعلام الرسمية والخاصة أسوة بالبرامج الدينية التي تبث من تلك الوسائل.
يجب على العلمانيين الذين يخوضون هذه المعركة الابتعاد عن النقاشات والتجاذبات الدينية أو الطائفية التي تبرز بشكل مباشر أو غير مباشر.. ذلك أن الدخول في دائرة نقاشات من شاكلة: هذا الدين أو ذاك أو هذه الطائفة أو تلك لا يقول ذلك.. أو الرجوع لحوادث تاريخية عمرها آلاف السنين.. أو محاولة إلقاء تهمة التطرف الديني على هذا الدين أو ذاك فقط. إن الدخول في هذه النقاشات يعني نجاح الأطراف الدينية المتعصبة في جرّ النقاش لدائرتها، فهذا يؤدي إلى جدال عقيم يلحق ضرراً وتشويهاً بمجمل مسيرة العمل من أجل العلمانية.
نعم، من المفروض إعادة قراءة بعض الشخصيات الدينية أو الحوادث التاريخية، وكتابة تصحيح أو تقويم جديد لها، لكن ذلك يتطلب وجود مؤسسات وشخصيات موثوقة، علمية، مستقلة ومحايدة، بعيدة عن روح الثأر أو التعصب.
ثامناً – ما المقصود بالعلمانية؟
يقال أحياناً إن (العَلمانية هي فصلُ الحكومة والسّلطة السّياسيّة عن السّلطة الدّينيّة أو الشّخصيّات الدّينيّة.. فقد تعني عدم قيام الحكومة أو الدّولة بإجبار أيّ أحدٍ على اعتناق معتقدٍ أو دينٍ أو تبنّيه، كما تكفل الحقّ في عدم اعتناق دينٍ معيّنٍ وعدم تبنّي دينٍ معيّنٍ كدينٍ رسميٍّ للدّولة. وبمعنى عامّ، فإنّ هذا المصطلح يشير إلى الرّأي القائِل بأنّ الأنشطةَ البشريّة والقراراتِ، وخصوصاً السّياسيّة منها، يجب أن تكون غير خاضعة لتأثير المُؤسّسات الدّينيّة).
وهناك تعريف آخر يقول: (العلمانيّة (بالإنجليزيّة: Secularism) هي عبارة عن مجموعةٍ من المُعتقدات التي تُشير إلى أنّه لا يجوز أن يُشارك الدين في المجالات السياسيّة والاجتماعيّة للدول، وتُعرَّف العلمانيّة بأنّها النظام الفلسفيّ الاجتماعيّ أو السياسيّ الذي يَرفض كل الأشكال الدينيّة؛ من خلال فصل المسائل السياسيّة عن عناصر الدين. ومن تعريفاتها أيضاً هي الآراء التي تسعى إلى استبعاد الأُسس الدينيّة عن كل الشؤون المدنيّة للدول).
من خلال مختلف تعاريف العلمانية نرى أن أساسها هو فصل الدين عن الدولة، والمدرسة، والتشريع، وأن ينحصر دور رجال الدين في دور العبادة دون تدخّل في شؤون الناس التشريعية أو اليومية بالترغيب أو الترهيب. كما يكفل القانون حرية ممارسة الشعائر الدينية وحقوق المؤمنين ضمن دور العبادة، على أن يكفل في الوقت ذاته حرية عدم الإيمان انطلاقاً من مفهوم المواطنة المتساوية، بمعنى أن مواطني الدولة العلمانية والمدنية متساوون في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن خلفيتهم الدينية/ الطائفية.
إن الحاجات الحقيقية لشعوبنا في هذه الظروف بالذات هي: الأمن والتنمية والسلام، وهذه الأهداف النبيلة لن تتحقق داخل مجتمعات قائمة على ثقافة الكراهية والتواكل والريع وتبخيس الحياة وتهييج الانفعالات السلبية والتحريض الطائفي والمذهبي.
العلمانية تعني الحياد الديني والطائفي والمذهبي للدولة ولمؤسسات الدولة. بمعنى أن الدولة تكون دولة المواطنين الطامحين لحياة أفضل.
إن تصاعد موجة الأفكار الدينية أو الطائفية المتطرفة في بلداننا، والتي لا تعترف بالمختلف عنها بل وتبيح قتله، يجعل من مطلب الدولة العلمانية أكثر من حيوي. هذا إذا كنّا نريد بناء أوطان تسودها قيم العقلانية وإنهاء التناحرات ووقف ثقافة كراهية الآخر المختلف عنا، بل والتشريع بقتله.
منذ زمان سحيق قال الفيلسوف الأندلسي (ابن رشد): إن أول قاعدة حوّلت الإسبان والأوربيين صوبَ النّور، هي المقولة التي حسمت العلاقة مع الدين: (الله لا يُمكن أن يُعطينا عقولاً، ثم يُعطينا شرائع مُخالفه لها).
أمّا القاعدة الثانية، فهي مقولتهُ التي حسمت التّجارة بالأديان:
(التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المُجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، فإن أردتَ التحكم في جاهل، عليك أن تُغلّف كلّ باطل بغلافٍ ديني).
إن ما تشهده منطقتنا منذ سنوات من صراعات وانقسامات تأخذ أشكالاً دينية /طائفية، وما يرافق ذلك من كوارث بشرية وفي البنى التحتية للمجتمعات التي تعاني من تلك الصراعات، تجعل مسألة التوجه نحو العلمانية قضية مركزية من أجل مجتمعات يتساوى فيها الجميع بالحقوق والواجبات، وتحترم حقوق الأفراد، مسألة ذات أهمية قصوى، مهمّة ليست مستحيلة مهما كانت صعبة.
بودّي أخيراً الإشارة إلى وجود منتدى العلمانيين السوريين في السويد، وهو يضم مجموعة من النشطاء العلمانيين، يقوم المنتدى بنشاطات متنوعة. للمنتدى صفحة على الفيس بوك واليوتيوب يمكن لمن يريد الاطلاع على النشاطات أن يكتب فقط اسم المنتدى باللغة العربية.