تشريعات قاسية وتعديلات واهية

إيمان أحمد ونوس:

تفترض المتغيّرات الحاصلة في كل مجتمع على مرّ السنين تطوراً قانونياً يواكبها كي تبقى حالة التوازن والتفاعل موجودة دائماً على المستوى الاجتماعي، ليشعر الأفراد بالأمان والعدل والمساواة من حيث الحقوق والواجبات، وهذا ما كنّا نأمله وننتظره من تعديل بعض مواد وفقرات قانون الأحوال الشخصية التي جاءت بالقانون رقم 4 لعام 2019، هذا التعديل الذي أتى مُخيّباً للآمال وعلى مختلف المستويات، إذ بقي محافظاً على نظرته الذكورية الداعمة للرجل في مختلف المجالات وعلى حساب المرأة والأطفال، في زمنٍ خلا من كل القيم الأخلاقية والإنسانية التي اغتالتها الحرب وأجهز تُجّار الحروب والفاسدين على ما تبقى منها.

فإذا ما نظرنا إلى هذا الواقع، نجد أن الفقر ساد حياة الغالبية العظمى من السوريين بسبب مصّاصي الدماء الذين لم يرتووا بعد، ولم تُشبعهم الملايين والمليارات التي كدّسوها في حساباتهم من الجوع والألم والأنين لملايين المواطنين الذين تُركوا لمصيرهم المجهول يواجهون رياح الغلاء العاتية التي تتسارع شدّتها يوماً بعد آخر ملتهمة كل مستلزمات البقاء على قيد حياة لا تليق حتى بأدنى الكائنات الحيّة على وجه الأرض، وسط صمت حكومي مريع ومُريب، وفساد مستمر بلا خجل أو محاسبة أفظع وأشدُّ ضراوة من الحرب ونيرانها!!

وبعد كل هذا، ووفق التعديل الأخير لقانون الأحوال الشخصية السوري يتمّ تحديد النفقة سواء للأم الحاضنة أو للطفل بمبالغ مخجلة ومُضحكة بذات الوقت، فقد صدمني حقيقة قرار طلاق إحداهن الذي جاءت فيه النفقة وفق ما ارتآه القاضي بما لا يتناسب أبداً مع الواقع المعيشي السوري، حيث تمّ تحديد هذه النفقة ببضعة آلاف من الليرات لم تصل على ثلاثين ألفاً شهرياً، أي بمعدل أقلّ من ألف ليرة يومياً! فهل يتوازن هذا الحكم مع الواقع المعيشي الحقيقي لهذه الأم وسواها من أمهات لاقينَ المصير ذاته ورفضن التخلي عن أمومتهن، لاسيما أولئك اللواتي سافر أزواجهن وتخلوا عنهن وعن أطفالهن نهائياً؟

المشكلة هنا ليست في القاضي الذي أصدر الحكم، بل في المُشرّع الذي وضع أُسس هذه التشريعات في زمن قريب وفق التعديل الأخير، والذي جعلنا نراه وكأنه منفصل عن الواقع بدل أن يكون في عمقه حين أجرى هذه التعديلات التي كان من المفترض بها مواكبة الزمن، لاسيما زمن الحرب وما تلاها من واقع أشدُّ قساوة من ذي قبل، حرب تركت كثيراً من النساء وحيدات يواجهن مصيراً مأساوياً وهنّ خاويات وخاليات الوفاض إلاّ من صبرهن وأمومتهن التي دفعت غالبيتهن للعمل بمهن وأماكن يعجز بعض الرجال عن ولوجها أو معتركها!! بينما لجأت بعضهن في ظل تعسّر وشُحِّ موارد العيش إمّا للعمل في مهن لا أخلاقية كالدعارة لتأمين قوت أطفالها واحتياجاتهم بأبسط أشكالها، أو التخلي عن أمومتهن والزواج ثانية ممّن يستطيع إعالتهن فقط، ذلك أن المُشرّع ذاته يحرم الأم من حضانتها إن تزوجت من رجل آخر وفق المادة 128 الفقرة-2- التي تنص على: يُشترط في المرأة الحاضن زيادة على الشروط الواردة في الفقرة/1/ من هذه المادة أن تكون خالية من زوج أجنبي عن المحضون إلاّ إذا قدّرت المحكمة خلاف ذلك لمصلحة المحضون. وهنا تأتي عبارة تقدير المحكمة مصلحة المحضون كذرٍّ للرماد في العيون، ذلك أن غالبية القضاة لا يحكمون لها بحضانة أطفالها في حال الزواج من آخر وتحت ذريعة مصلحة المحضون في تماهٍ تام مع الذهنية الذكورية التي تسود غالبية المُشرّعين والقضاة في مجتمعاتنا للأسف، والواقع خير برهان على ما نقول.

نُدرك تماماً أن المُشرّع قد أخذ بالحسبان مقدار الدخل الشهري للزوج في الداخل، والذي لا يتجاوز الخمسين ألفاً حسب الرواتب السارية في البلاد عند احتساب نفقة الحضانة للأم والطفل، لكنه لم يأخذ بالحسبان أموراً أخرى أهمها أن هذه الرواتب والأجور لا تتناسب والواقع الراهن بكل مأساويته وفظاعته، مثلما لم يأخذ بالحسبان حال الأزواج المسافرين خارج البلاد وقيمة ما يتقاضونه هناك قياساً لمستوى المعيشة في الداخل، وبأنهم يستطيعون تقديم نفقة تتوافق والاحتياجات الحقيقية لأطفالهم الذين لا شكّ ستنتهي نفقة الذكور منهم ببلوغهم الثامنة عشرة!

هنا، هل من قيمة تُذكر للتعديلات التي صدرت بعد مناشدات وضرورات فرضها الواقع وبقوة، فأتت وكأنها لم تُغيّر شيئاً أو كما يقول المثل الشعبي (كأنك يا بو زيد ما غزيت)!

وهل يُعقل أن يتحجّر ذهن المُشرّع أمام هذا الواقع، ويبقى مُتشبّثاً بما تفرضه الحكومة من إجراءات وقوانين لا تتناسب وإنسانية الإنسان!؟

ألا يُفترض بالمشرّع والتشريعات أن تكون الإنسانية والعدالة عنوانها وهدفها ومسعاها، أم أن المصالح الشخصية والذهنية الذكورية هي سيّدة الحكم والتشريع!؟

العدد 1104 - 24/4/2024